العودة إلى وضع الدولتين مصلحة شمالية قبل أن تكون جنوبية وعربية ودولية

منبر عدن

قال الدكتور عيدروس نصر النقيب رئيس المؤسسة الجنوبية للدراسات والأبحاث الاستراتيجية إن العودة إلى نظام الدولتين الشقيقتين الجارتين المتعايشتين المتعاونتين المتشاركتين يمثل مصلحة شمالية قبل أن تكون جنوبية وإقليمية وعربية ودولية لأنها كما يرى " تمثل المدخل الوحيد لإحلال السلام الدائم والشامل في الإقليم والدخول في صناعة شراكات بناءة ليس فقط بين دولة الجنوب ودولة الشمال ولكن مع الأطراف الإقليمية والدولية، شراكات تقوم على فتح أبواب الاستثمار والتنمية وحماية الممرات وتأمين الملاحة الدولية وتحقيق عائدات مادية مثمرة لكل الشركاء في الإقليم وعلى المستوى العربي وعلى المستوى الدولي".
جاء ذلك في مداخلة الدكتور النقيب التي قدمها أمام ندوة " القضية الجنوبية ومخرجات مشاورات الرياض" التي شهدتها مدينة شيفيلد البريطانية، والتي نظمتها المؤسسة الجنوبية للدراسات والأبحاث الاستراتيجية بتاريخ 26 نوفمبر 2022م في إطار الاحتفالات بالذكرى 55 للاستقلال الوطني في الثلاثين من نوفمبر 1967م.
وفي مداخلته تعرض الدكتور النقيب لعدد من القضايا المتصل بثنائية "القضية الجنوبية ومخرجات مشاورات الرياض" مقدماً مجموعة من النقاشات المعمقة لإشكالية العلاقة بين التعهد بتحرير الشمال من الجماعة الحوثية والحل العادل للقضية الجنوبية بما يرتضيه السواد الأعظم من أبناء الجنوب.
1. ومما تعرض له الباحث قضية أملاك الجنوبيين في الشمال وأملاك الشماليين في الجنوب في ظل "الدولتين الجارتين الشقيقتين المتجاورتين والمتعايشتين والمتعاونتين ـ كما يقول دائما ـ"، حيث أشار إلى إن " هناك أنظمة وقوانين تحمي هذا النوع من المصالح أو لنقل تنظم كيفية التعامل معها، لكن هناك خصوصية تتعلق بالمصالح المشتبه في طريقة تحقيقها وخصوصا في الجنوب الذي تعرض للغزو والاجتياح والسلب والنهب على مدى قرابة ثلاثة عقود، وفي رأينا أن المصالح التي جرى تحقيقها بالطرق القانونية لا نقاش بشأنها فأصحابها لا يختلفون عن أي مستثمر من أولائك الذين يدعوهم السياسيون والمسؤولون للاستثمار في البلد، أما تلك المصالح التي تمت عن طريق الاستحواذ أو الاغتصاب أو الاستيلاء غير القانوني أو عن طريق سوء استغلال السلطة فإنها يجب أن تخضع للقانون ويجب أن تقدم للقضاء وهو وحده من يقرر مصيرها".
وإذ يؤكد الدكتور النقيب أن الوحدة السلمية الطوعية بين الشعبين والدولتين قد جرى وأدها بالحرب والغزو وأن وحدة الحرب والاجتياح قد حكم عليها التاريخ بالموت فإن البديل هو العودة إلى نطام الدولتين، مؤكداً أن هذا المخرج بين شعبين شقيقين وجارين يحتفظان لبعضهما بوشائج القربى والأخوة والتعاون والتشارك هو أفضل من وحدة تصنعها القوة ويكرسها الإكراه وتحكمها الضغينة والكراهيات المتناسلة منذ ثلاثة عقود مختتما مداخلته بقوله " وبالعكس فإن الإصرار وبعناد على استحضار المشاريع الميتة ومحاولة نفخ الروح فيها من جديد بعد أن ماتت منذ زمن، كل هذا لا يمثل سوى مواجهة مباشرة مع حتميات التاريخ، وهذه المواجهة نهايتها الطبيعية الفشل، وليس من شأنها إلا إبقاء البلدين والشعبين في حالة حروب دائمة تحرق ما نجا من حرائق العقود الثلاثة المنصرمة والسير بالشعبين نحو المزيد من الأحقاد والعداوات والخسائر  المهلكة ولن يكون الجنوب وحده فيها هو الخاسر، بل إن خسائر المتبنين لهذا النهج ستكون الأكبر".

وفي ما يلي نص المداخلة
القضية الجنوبية ومخرجات مشاورات الرياض
مداخلة د. عيدروس نصر
حينما دعت الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي إلى المشاورات اليمنية-اليمنية في الرياض كانت الأوضاع على الساحة اليمنية (شمالا وجنوبا) تعج بمجموعة من المؤشرات التي لا تؤكد إمكانية حل الأزمة اليمنية وإنهاء حالة الحرب التي دخلت عامها الثامن دون أن تلوح في الأفق أية بشائر للسلام أو على الأقل توقف هدير المدافع وأزيز الرصاص، ويمكن تركيز تلك المؤشرات في الأتي:
1. تزايد عدد الهزائم التي ألحقت بما يسمى بـ"الجيش الوطني" المفروض أنه جيش السلطة الشرعية ، والمدافع عنها، وحامل رسالة إسقاط الجماعة الحوثية واستعادة العاصمة صنعاء، و"رفع علم الجمهورية اليمنية في جبال مران" كما ظل الرئيس الشرعي (حينها) الفريق الركن عبدربه منصور هادي يؤكد في معظم خطاباته.
2. تضاعف قوة شوكة الجماعة الحوثية وتزايد المساحة التي تسيطر عليها في إطار محافظات الجمهورية العربية اليمنية (السابقة) من خلال إسقاط مساحات واسعة في كل من محافظة الجوف التي سقطت كاملةً بيد الجماعة الحوثية، ومعظم مديريات محافظة مأرب وما تبقى من مديريات محافظة البيضاء.
3. وبمقابل ذلك تقلص المساحة التي تسيطر عليها "الشرعية" في مساحة الشمال (المعروف تاريخيا باسم الجمهورية العربية اليمنية) إلى عدد قليل من المديريات في تعز ومأرب وبعض مديريات الساحل الغربي (بين الحديدة وتعز) وهذه مناطق حررتها قوات العمالقة الجنوبية وقوات المقاومة التهامية، ثم سلمتها لقوات حراس الجمهورية التابعة للعميد طارق صالح ابن شقيق الرئيس السابق الذي تمرد على الحوثيين وأنهى تبعيته لهم بعد مقتل عمه الرئيس السابق علي عبد الله صالح على أيدي الحوثيين، وهذه المساحات على محدوديتها تخضع لأطراف حزبية متناثرة ومتناقضة.
4. نقل معركة قوات "الشرعية" من مواجهة الحوثيين في مأرب وتعز والحديدة بهدف استعادة العاصمة صنعاء، إلى مواجهة القوات الجنوبية صاحبة الانتصار الوحيد على القوات الحوثية والتي حررت الـ 80% من مساحة اليمن التي ظل "الشرعيون" يتباهون بتحريرها وسيطرتهم عليها طوال سنوات الحرب السبع.
5. استمرار المعاناة والحصار الذي تتعرض له محافظات الجنوب من خلال توقيف الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وكهرباء ومياه ووقود وخدمات بلدية، وعدم دفع المرتبات للموظفين والمتقاعدين الحكوميين من عسكريين ومدنيين في ظل أجواء الحرب التي عاشتها محافظات الجنوب في المواجهات مع القوات "الشرعية" في شبوة وأبين، والجماعة الحوثية على مناطق التماس في لحج والضالع  وأبين وبيحان وما لذلك من أثر على حياة المواطنين في محافظات الجنوب التي يفترض أنها محررة.
6. ومحصلة كل هذه المؤشرات تمثلت في اضمحلال حضور "السلطة الشرعية" وتقلص مساحة نفوذها وعجزها عن القيام بأبسط الوظائف سواء على جبهات المواجهة العسكرية، أو على صعيد إدارة المناطق وتوفير الخدمات والحقوق الأساسية للمواطنين في مناطق سيطرتها (المفترضة)، مقابل اتساع نفوذ الجماعة الحوثية وازدياد بطشها وتحكمها بحياة المواطنين وهم أغلبية سكان اليمن، ونجاحها النسبي في ضبط مستوى الخدمات وبناء منظومة حكمها المتماسكة إلى حدٍ ما بالمقارنة مع سلطة "الشرعية" المهترئة.
7. كان المجلس الانتقالي الجنوبي قد تشكل في العام 2017م وتزايدت مساحة حضوره خلال السنوات التي أعقبت الإعلان عنه، وقد عبر خلال مسيرته السياسية عن تمسكه بالخيار السلمي لقيادة الشعب الجنوبي في سبيل استعادة دولته الجنوبية بحدود 21 مايو 1990م، وهو الشعار الذي بقي وما يزال الجنوبيون يتمسكون به حتى اللحظة.
8. وبرغم بعض التراجع في شعبية المجلس الانتقالي الجنوبي في السنوات الأخيرة بسبب تضاعف المصاعب المعيشية للمواطنين الجنوبيين، وتفشي حالة الإحباط واليأس بين صفوف المواطنين الجنوبيين إلا إن نجاح المجلس في فرض نفسه على الصعيدين الإقليمي والدولي واشتراكه في توقيع اتفاق الرياض مع الحكومة الشرعية، وإشراك القوى السياسية الجنوبية معه في حصة الجنوب من حكومة المناصفة، مقابل تنامي حالة التذمر في  محافظات الجنوب اتساع مساحة السخط تجاه ممارسات وسياسات السلطة "الشرعية" في تلك المحافظات، كل هذا قد ساعد في الحفاظ على حضور المجلس الانتقالي الجنوبي كقوة رئيسية في قيادة الشعب الجنوبي والتعبير عن تمسكه بحقه في استعادة دولته واختيار طريقه المستقبل الحر.
9. وفي سياق المواجهة بين السلطة "الشرعية" والجماعة الحوثية قدمت القوات الجنوبية نموذجا متفوقا على ما يقدمه "الجيش الوطني الشرعي" المكون من عدة مئات الآلاف، ففي حين انسحب "الجيش الوطني" من أربع  محافظات شمالية لصالح الجماعة الحوثية ، بينها المديريات الشرقية لمحافظة صنعاء كفرضة نهم ومحيط العاصمة صنعاء، تمكنت القوات الجنوبية وبعدد آلاف الأفراد والضباط أن تستعيد 3 مديريات في محافظة شبوة ومديرية رابعة في محافظة مأرب من أيدي القوات الحوثية، وأجبرتها على الفرار، حينما عجز "جيش الشرعية" المسمى بالـ"وطني" عن تحرير قرية واحدة من هذه المديريات ومن عشرات المديريات التي سلم معظمها للجماعة الحوثية طوعياً دونما مقاومة ومعها معظم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وطبعا الخفيفة والذخائر والمؤن المقدمة من دول التحالف العربي.
10. وعلى الصعيد الدولي رتابة وتأرجح  المفاوضات بين إيران ودول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بشأن الملف النووي الإيراني، وهو ما منح وما يزال يمنح إيران المزيد من الوقت لتطوير برنامجها النووي والاقتراب من إنتاج السلاح النووي، مع ابتزاز العالم لتحسين شروط تفاوضها ومضاعفة مدها لأياديها في الخارج من المليشيات والجماعات المسلحة ، وما لهذه القضية من أثر على استرار الحرب اليمنية، وبمعنى آخر تحويل القضية في اليمن إلى ورقة من أوراق النزاع بين إيران والمجتمع الدولي بشأن الملف النووي الإيراني ودور إيران في دعم أذرعها المليشياوية في العديد من البلدان العربية ومنها الجماعة الحوثية المسيطرة على شمال اليمن.
في ظل هذه الوضعية المعقدة والشائكة والباعثة على الإحباط لدى كل مناصري الشرعية والرافضين للانقلاب وحالة الزهو والمفاخرة والنشوة التي تعيشها الجماعة الحوثية وأنصارها، جاءت الدعوة لعقد مؤتمر مشاورات الرياض اليمنية-اليمنية لتشجيع اليمنيين على العصف الذهني (أو هكذا يفترض) للتوصل إلى خيارات بديلة لتلك الخيارات التي لم تثمر سوى الهزائم والانتكاسات واتساع مساحة الفقر والأوبئة وانهيار المنظومة الخدمية وارتفاع تكاليف المعيشة لدى المواطنين في الضفتين المتواجهتين، وإن تميزت الحالة في مناطق سيطرة الشرعية بمزيد من انهيار المنظومة التنفيذية وحتى الأمنية والعسكرية.
وقد شبه أحد الكتاب سلطة "الشرعية" التي كان يترأسها الفريق عبد ربه منصور هادي، ونائبه الفريق علي محسن الأحمر، حينها بالمريض الممدد في غرفة الإنعاش، والعائش على أنبوب التغذية المقدمة له من دول التحالف العربي، وإن مجرد سحب "الكانيولا" من الوريد سيؤدي إلى الوفاة الحتمية لهذه المريض.
لكن دول التحالف العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وهي معنية بمسارات ومآلات الحرب والسلام في اليمن لم تكن ترغب في سحب "الكانيولا"، لأن "موت المريض" كان سيعني الفشل الكلي للعملية التي أقدمت عليها دول التحالف منذ نحو ثماني سنوات، ولذلك جاءت الدعوة للمشاورات للبحث وللمفاضلة بين البدائل الممكنة للإبقاء على المريض على قيد الحياة والمساهمة في علاجه وتعافيه، ومن ثم الذهاب للبحث عن مخرج بديل لمبدأ الحرب بعد أن أثبتت الوقائع أن خيار الحرب هو الأسوأ والأعلى كلفة والأقل ثمرة والأكثر مخاطرة لطرفي الحرب وللمؤيدين للطرفين من الإقليم والعالم.
لقد تركزت المناقشات ومن ثم التوصيات على المحاور الستة التي حددها الداعون للمشاورات، وأهم ما أكدت عليه المخرجات كما وردت حرفياً في "نص البيان الختامي الصادر عن مشاورت الرياض"  تمثل في :
أولاً: تعزيز مؤسسات الدولة ووحدة الصف. 
ثانياً: أولوية الحل السياسي.
ثالثاً: استكمال تنفيذ اتفاق الرياض الموقغ في نهاية نوفمبر 2018م بين  الشرعية في الرياض والمجلس الانتقالي الجنوبي.
رابعاً: الحفاظ على الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب.
خامساً: التعافي والاستقرار الاقتصادي وحوكمة الموارد المالية للدولة وإدارة الموارد الطبيعية للبلاد.
سادساً: تطوير آليات الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد.
سابعاً: معالجة الآثار الاجتماعية للحرب.
ثامناً: الشراكة الاستراتيجية بين اليمن ومجلس التعاون لدول الخليج العربي.
تاسعاً: الحفاظ على الأمن القومي العربي.
عاشراً: الشراكة مع المجتمع الدولي
حادي عشر: استمرار المشاورات اليمنية-اليمنية.
وبرغم المناقشات المطولة التي أبداها الممثلون الجنوبيون في المحور السياسي والمحور الأمني والعسكري، ومثلها بقية المحاور، والتي تركزت جميعها حول تمسك الشعب الجنوبي وقياداته السياسية بحق العودة إلى وضع الدولتين وتمكين الشعب الجنوبي من استعادة دولته على حدود 21 مايو 1990م فإن النص الوحيد الذي تضمنه البيان الختامي والتوصيات الصادرة عن المشاورات تلخص في العبارة اليتيمة الواردة في الفقرة الثالثة المتعلقة باستكمال تنفيذ اتفاق الرياض والتي نصت على ما يلي "تم الاتفاق على إدراج قضية شعب الجنوب في أجندة مفاوضات وقف الحرب لوضع إطار تفاوضي خاص لها في عملية السلام الشاملة" .
وهكذا فإنه وفي ضوء مخرجات مشاورات الرياض وما شهدته من مناقشات ومواجهات (لفظية) وتوصيات وما ترافق معها من إعادة هيكلة بنية المنظومة السياسية، والتنفيذية للمؤسسة الشرعية، نشأ هناك انطباعان فيما يتعلق بمستقبل القضية الجنوبية ووضع المجلس الانتقالي الجنوبي وبقية القوى الجنوبية المتمسكة بقضية استعادة الدولة الجنوبية، ليس فقط لدى خصوم القضية الجنوبية، بل ولدى الكثير من أنصارها وجزء ليس بهين من قاعدتها الجماهيرية العريضة المتمثلة بملايين المواطنين الجنوبيين.
الانطباع الأول
ويرى أنه وفي ظل انخراط المجلس الانتقالي الجنوبي في عضوية مجلس القيادة الرئاسي وفوز الجنوب بنصف عضوية المجلس فإن  القضية الجنوبية قد دخلت طور الحل النهائي ولم يعد للجنوبيين الحق في الحديث عن استعادة الدولة الجنوبية بعد أن صار لديهم نصف القيادة السياسية وقبلها نصف أعضاء مجلس الوزراء، هذا الانطابع يقول به القادة والكتاب والإعلاميون من الأشقاء الشماليين، بل إن البعض قد صرح علنا بأن الجنوبيين قد استحوذوا على السلطة ونالوا ما لا يستحقون. 
أما أصحاب هذا الانطباع من الجنوبيين فيعتبرون أن القيادة الجنوبية قد اكتفت بحصتها من القيادة السياسية (المجلس الرئاسي) والتنفيذية (مجلس الوزراء) وبالغ البعض في القول بإنها (أي القيادة الجنوبية ) قد باعت القضية الجنوبية مقابل الألقاب والامتيازات التي سيتحصل عليها أعضاء مجلس القيادة الرئاسي وأعضاء مجلس الوزراء من الجنوبيين.
الانطباع الثاني:
وهذا الانطباع يقوم على ثقافة التشكيك، التي ليست بعيدةً عن نظرية المؤامرة، ويرى بعض القائلين به، وخصوصاً من الأشقاء الشماليين، أن المجلس الانتقالي والشركاء الجنوبيين عموما يعمدون إلى الخداع والتضليل من خلال القبول بمخرجات مشارات الرياض لفظاً والعمل على الانقضاض عليها عملياً بعد التمكن من الهيمنة على محافظات الجنوب كاملةً، ولمثل هذا الرأي يوجد رأي جنوبي والذي يرى أن الطرف الشمالي، ومعه رعاة مشاورات الرياض قد استدرجوا الطرف الجنوبي إلى الموافقة على مخرجات مشاورات الرياض، وأقنعوهم بالعبارة اليتمية التي لا تزيد على سطرين ببنط 14، بخصوص وضع القضية الجنوبية في المشاورات النهائية والتي على الصعيد العملي لن تعني شيئا ملموسا على الإطلاق، ويرى هذا الفريق أن القضية الجنوبية قد تم الالتفاف عليها بمجرد موافقة الطرف الجنوبي على مخرجات المشاورات.
مصير القضية الجنوبية بعد مشاورات الرياض:
جوهر القضية
لسنا بصدد التعريف بالقضية الجنوبية واستعراض كل ما يتعلق بها من تفاصيل وملابسات وتعقيدات قد تتطلب المجلدات لإيضاح جوهرها ومضمونها، لكننا سنتوقف هنا بإيجاز عند أهم الأحداث والمعطيات التي جعلت للجنوب قضية اسمها "القضية الجنوبية" لتتخذ هذه المسارات وهذا الانتشار الوطني والإقليمي والعالمي الواسع حتى أصبحت في المستوى الذي وصلت إليه اليوم.
ويمكن البدء بالتركيز بشكل أساسي على محاولة توحيد الدولتين السابقتين "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" و"الجمهورية العربية اليمنية" تلك المحاولة التي جرت في العام 1990م، بموجب اتفاقات ومشاورات وجلسات مباحثات مطولة أسفرت عن إعلان "الجمهورية اليمنية"  في 22 مايو من نفس العام كحصيلة لتوحيد ودمج الدولتين السابقتين.
ونعلم جميعاً أن تلك المحاولة قد اصطدمت بالمعيقات والعراقيل المتعددة منذ أيامها الأولى، ولن نتطرق للحوادث والاعتداءات ومحاولات الاغتيال بل وعمليات الاغتيال التي تعرضت لها الكوادر والقيادات الجنوبية في الأشهر الأولى من عمر الجمهورية (المفترضة)، لكننا سنتوقف أمام أهم  الأسباب التي أدت إلى فشل محاولة التوحيد هذه وتتلخص في:
1 تباين النظامين الذين اتحدا في دولةٍ واحدة في جميع المجالات القانونية والمؤسسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وحتى في المشاريع والتوجهات المستقبلية وفي هذا السياق يمكن الحديث عن نظامين سياسيين مختلفين واقتصادين مختلفين وعلاقات وتمظهرات اجتماعية مختلفة وبنيتين قانونيتين مختلفتين وثقافتين إداريتين مختلفتين وغير ذلك من المعايير والمقومات .
2 تناقض وتصادم النوايا والأهداف لدى النظامين السياسيين المندمجين وقيادتهما، ففي حين دخلت القيادة الجنوبية بنية طي صفحات ماضي الصراع بين البلدين والشعبين الشقيقين وبناء دولة مدنية جديدة تستهدف النهوض والتنمية وتسخر وسائل وأدوات الصراع للتنمية والبناء لكلي الشعبين، دخلت القيادة الشمالية بنية الاستهداف والغلبة والانقلاب علي ما تم الاتفاق عليه، ومن ثم الاستحواذ على الجنوب ومقدراته ومستقبل أبنائه، وقد راهنت القيادة الشمالية على عدة عناصر تتفوق بها أهمها الكثافة السكانية، وثقافة الحرب والغزو والغنيمة المترسخة في الأوساط الشعبية وحتى في العقلية السياسية للطبقة الحاكمة، وتفاوت الإمكانيات المادية والعسكرية واللوجستية والبشرية بين الطرفين لصالح الشمال.
3 التباين الجغرافي والديمغرافي، وما له من أثر في اختلال التوازن بين الطرفين الشريكين في محاولة التوحيد، حيث دخل الجنوب بمساحة مقدارها 375 ألف كم مربع وسكان حوالي ثلاثة ملايين وثلاثمائة وخمسين ألف نسمة، كانت مساحة الشمال 195 ألف كم مربع وبسكان قرابة العشرين مليون، وهذا العنصر كان من العناصر الحاسمة في اجتياح المقاتلين (المتطوعين) الباحثين عن الغنائم لمدن وقرى الجنوب ومديرياته ومحافظاته.
هذه التباينات والمؤثرات الحاسمة لم يحسب الطرف الجنوبي حسابها أثنا عملية التوحيد لأن القادة الجنوبيين لم يدخلو الوحدة بهدف الحرب والمواجهة وإنما بهدف توحيد الأرض والإنسان والجهود والموارد بغرض النهوض بالبلد وتحسين معيشة الناس، وقد بدأت آثار تلك التمايزات تظهر منذ اليوم التالي لإعلان 22 مايو
ولم تمض أشهر حتى اتضخ أن البلاد ذاهبة باتجاه الحرب وأن الطرف الشمالي (والمقصود هنا النظام السياسي الشمالي) قد أعد العدة للحرب منذ ما قبل التوقيع على اتفاقيات التوحيد، ولم يكتف نظام الشمال بتوحيد البلدين سلمياً وهو ما كان يمكنه استخدامه لتحقيق ما يخطط له لكنه كان يستعجل الفوز بالغنيمة بأقصر وقت ممكن، فاندلعت الحرب وأدت إلى ما أدت إليه مما لا يحتاج إلى المزيد من الشرح والتفصيل.
في سياق الحوارات والمناظرات مع الأصدقاء  والخصوم السياسيين كان كاتب هذه السطور دائما أثناء الإقامة في صنعاء يعرف القضية الجنوبية بأنها قضية "دولة دُمِّرت وشعب هُمِّش واستُبعِد وأرض صودِرت وثروات وأملاك نُهِبَت وحريات قُمِعَت وهوية مُسِخَت وثقافة شُوِّهَت وتاريخ زُوِّر ومستقبل أُقْفِلَت أبوابه أمام الشعب الجنوبي" ومع كل الجدالات التي خِيضَت بهذا لصدد إلآ إن تلك كانت حقيقة ما أنتجته حرب الغزو والاجتياح والعدوان على الجنوب في العام 1994م.
لقد عرف التاريخ مئات وربما آلاف الحروب، العدوانية التي أدت إلى إسقاط أنظمة وغزو واحتلال بلدان وكان الغزاة يعترفون بأنهم احتلوا البلد المستهدف ويعاملون أهل هذا البلد على إنهم طرف مهزوم وبالتالي نشأت عبر التجارب التاريخية ظاهرة التزامات الغازي تجاه البلد الذي غزاه وتجاه أهل ذلك البلد، وفي زمن الاستعمار الذي قام على عدة مرتكزات إحدها العزو جرى عقد اتفاقيات بين المستعمر وأهل البلد المستعمَرة، مثل اتفاقيات الحماية واتفاقيات التعاون المشترك، وما شابهها، وهي في كل الأحوال اتفاقيات بين القوي والضعيف أو المنتصر والمهزوم، لكن فيها التزامات من قبل الطرفين، ومن المؤكد أنها تصب في صالح الطرف الأقوى، الذي هو المستعمر أو الغازي ومع ذلك كانت تحفظ مصالح البلد الخاضع للغزو والاحتلال وتحترم حقوق أهله التي نصت عليها الاتفاقيات.
لكن أسوأ ما في حرب 1994م على الجنوب التي يزعم من خاضوها وانتصروا فيها أنهم جاؤوا لتعزيز الوحدة الوطنية بين الشمال والجنوب، لا بل إنهم ينكرون وجود شمال وجنوب أصلاً، أسوأ ما في هذه الحرب إن المسالك التي اتخذها المنتصرون الشماليون (ومن آزرهم من الجنوبيين وهم بالعشرات وقد ييبلغون المئات) في تعاملهم مع الجنوب كانت تمضي باتجاه التعامل معه كعدو ومع أبنائه بكل أطيافهم ومكوناتهم وأرضهم وتاريخهم وهويتهم، كأعداء يجب أخضاعهم وتركيعهم وإجبارهم على العيش كأعداء فقط وفي كثير من المرات كرر بعص القادة الشماليين المنتضرين أقوالا مثل "على الجنوبيين أن يشكرونا لأننا تركنا لهم رؤوسهم على أعناقهم".
لقد توقف الجنوب عن التطور والتقدم وتعطلت فيه عجلة الحياة وحركتها على مدى ربع قرن وما تزال حرب التعطيل والتدمير قائمة حتى يوم الناس هذا، وكل ذلك بسبب الغزو والاحتلال وحيثما يضع المرء إصبعه سيجد آثار التدميروالتعطيل الممنهجين قائمة وتتجذر كل يوم، وحتى عندما يتحدث البعض عن المناطق أو المحافظات المحررة ويقصد بها محافظات الجنوب الثمان، فإنهم يقصدون أنها محررة من الاحتلال الحوثي التابع لأنصار إيران، لكن الحقيقة أن جميع تلك المحافظات بما في ذلك العاصمة عدن ما تزال تعيش أجواء وسياسات ومنهاجية وأسلوب حياة ما بعد 1994م وما تزال العادات والأعراف ولا أقول القوانين والنظم، لأن دولة علي عبد الله صالح لم تكن تعير اهتماماً لموضوع النظام والقانون، أقول ما تزال العادات التقاليد والأعراف الإدارية والتنفيذية والعقلية السياسية التي تدير الجنوب والكادر الذي ينفذها قائمةً وسائدةً منذ أن جلبها معه نظام 1994م، وما تزال حوالي ثلثي مساحة الجنوب (المعروف حتى 1990م باسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) ما تزال تخضع لقوات الغزو التي قدمت إلى تلك المناطق صبيحة 7/7/1994م، ونقصد هنا مناطق وادي وصحراء حضرموت وكامل محافظة المهرة.
ما مصير القضية الجنوبية؟
وما مصير مخرجات مشاورات الرياض؟
هذه الثنائية تضع نفسها أمام الباحث المتعطش لمعرفة المآلات التي يمكن أن تصل إليها الأمور في ظل اتجاهين متناقضين: 
الاتجاه الأول: تمسك شعب الجنوب بقضيته العادلة وإصراره على ما لا يقل عن العودة إلى نظام الدولتين الجارتين الشقيقتين المتعايشتين المتعاونتين، وهذا الاتجاه لا يعبر فقط عن الموقف السياسي للمجلس الانتقالي الجنوبي والقوى السياسية الجنوبية بل إنه موقف الغالبية العظمى من أبناء الشعب الجنوبي، وأية قوة سياسية جنوبية قد تقرر التراجع أو المساومة في هذا المطلب فإنها ستعزل من قبل المواطنين الجنوبيين بمختلف انتماءاتهم السياسية والفئوية والفكرية والمهنية والجغرافية.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الشمالي (ونقصد هنا غالبية النخبة السياسية الشمالية) المصمم في الغالب الأعم على بقاء وحدة 22 مايو، أو وحدة 1994م أو تلك التي تحدثت عنها ما عرفت بمخرجات الحوار الوطني وهو دولة الأقاليم الستة وهذا الموقف يتمسك بها الحزبان الرئيسيان ـ المؤتمر الشعبي العم بمختلف أجنحته، والتجمع اليمني للإصلاح، لكن الحوثيين وهم اليوم القوة الأولى في مساحة الجمهورية العربية اليمنية (السابقة) يرفضون حتى دولة الأقاليم وقد كانت تلك حجتهم الأساسية في التمرد على سلطة الرئيس عبدربه منصور هادي عام 2014، ويصرون على الدولة الاندماجية التي يكون لهم فيها محور ارتكاز القيادة السياسية وهم يعلنون هذا ولا يتكتمون أو يموهون في نواياهم هذه.
وكما يعلم الجميع فإنه لا مشاورات الرياض ولا مخرجات حوار صنعاء ولا القرارات الدولية ومنها قرار مجلس الأمن رقم 2216 ولا غيرها من الأدبيات السياسية أو ما تسمى المرجعيات تعرضت لمصير القضية الجنوبية.
وحتى لا نتهم بالجحود أو التنكر نشير إلى أن ضجيجا متواصلا شهدته جلسات مؤتمر حوار صنعا طوال 2012 ومطلع 2013م حول القضية الجنوبية وخصص لها محور خاص ولجنة خاصة، لكن المحصلة لكل هذا الضجيج كانت انسحاب معظم المشاركين الجنوبيين من جلسات المؤتمر ومن جلسته الختامية على وجه الخصوص،  وفي الأخير قرار تقسيم الجنوب إلى إقليمين وهو الذي دخل مشروع الوحدة (الفاشل) كدولة لها ثقلها وحضورها على الصعيدين الإقليمي والدولي، وعموما فإن هذه المخرجات كما أشرنا للتو قد غدت السبب الرئيسي للانقلاب والحرب المدمرة التي تعيشها البلد ونتائجها المأساوية على الإنسان والعمران.
وبصورة عامة فإنه وحتى التصريحات والخطابات التي تعلن تعاطفها مع أبناء الجنوب نادراً ما تتحدث عن تطلعات الشعب الجنوبي وحقه في  تقرير مصيره المستقبلي، أو حل القضية الجنوبية وفقا لما تقتضيه إرادة الشعب الجنوبي.
ويقتضي الإنصاف أن نشير إلى مبادرة الحزب الاشتراكي اليمني أثناء مؤتمر حوار صنعاء التي تقترح فيها قيام دولة اتحادية بإقليمين، شمال وجنوب، وهو الموقف الذي تبناه مؤتمر شعب الجنوب برئاسة المناضل محمد علي أحمد وأحمد بن فريد الصريمة، لكن كل هذه المبادرات ضُرِب بها عرض الحائط وجرى ما جرى من سلق للمخرجات وما تلاها من تداعيات معروفة للجميع انتهت بسقوط صنعاء بأيدي الجماعة الحوثية.
إن استمرار التمسك بهذه السياسات ومحاولات الخداع والمغالطة من شأنه أن يعقد الطريق أمام شركاء الشرعية الجديدة والتي يقودها الدكتور رشاد العليمي المناصر لدولة 1994م وما تضمنته مخرجات حوار صنعاء المرفوضة من قبل كل القوى السياسية الشمالية قبل أن يرفضها الجنوبيون.
نحن نرى أن التلازم بين مخرجات مشاورات الرياض ومتطلبات القضية الجنوبية يمكن أن يؤدي إلى إحدى نتيجتين متناقضتين في ظل مسارين متناقضين:
المسار الأول:  والمتمثل بالتعامل العقلاني من قبل القوى السياسية الشمالية مع القضية الجنوبية وتضحيات شعب الجنوب، من خلال الإقرار العلني بفشل تجربة الوحدة بأي شكل من الأشكال، وفشل الجمهورية اليمنية الواحدة ومن ثم الإقرار بأحقية الشعب الجنوبي في استعادة دولته والعودة عملياً إلى حدود 21 مايو 1990م للدولتين الشقيقتين المتجاورتين المتعاونتين، ومؤيدات هذا المسار تتمثل في:
1.  الفشل المؤكد للتجربة الوحدوية السلمية وعدم صمودها لأكثر من عام، ناهيك عن الفشل في بناء الدولة المدنية التي طالما حلم بها اليمنيون في الشمال والجنوب والفشل في توفير الحد الأدنى من ممكنات العيش الكريم للمواطنين في الشمال والجنوب على السواء، ولم تكن الحرب المدمرة على الجنوب في صيف العام 1994م إلا تعبيراً جلياً عن هذا الفشل.
2. الإصرار المتناهي للغالبية العظمى من أبناء الجنوب على عدم القبول بالعودة إلى ما سمي بـ"دولة اليمن الواحد"، هذا عندما كان هناك ما يشبه الدولة فما بالنا اليوم بمنظومة تسيطر عليها (أو حتى على نصفها) جماعات مليشياوية بخلفيات عنصرية وسلالية لا تتورع عن إعلان عنصريتها وسلاليتها للملا.
3. التضحيات الجسيمة التي قدمها الجنوبيون منذ العام 1994م، وخصوصا بعد العام 2007م عام انطلاق ثورة الحراك السلمي الجنوبية، والتي تجاوزت العشرة آلاف شهيد وأضعافهم من الجرحى ناهيك عن ضحايا حرب 2015م والتي تجاوزت  الرقم السابق بكثير من الشهداء والجرحى والتضحيات المستمرة ما بعد تحرير عدن ومحافظات الجنوب من الجماعة الحوثية وشركائها في العام 2015م، مما يجعل التخلي عن أهداف هذه التضحيات بمثابة خيانة لأرواح ودماء الشهداء والجرحى.
4. اتساع الفجوة النفسية بين أبناء الشعبين في كل من الشمال والجنوب وهي الفجوة التي صنعتها السياسات العدائية المتبعة من قبل نظام 1994م وجماعة الغزو الثاني في 2015م وكرسها الإعلام التابع للجماعات المتطرفة وما نجم عن الحربين من تدمير مؤسسي وعمراني وخدمي وحقوقي وثقافي ونفسي، استطاعت الماشينة الإعلامية للغزاة أن تحوله إلى قناعة لدى الغالبية العظمى من سكان الشمال، وهذه السياسات نقلت الصراع من صراع يخوضه الشعب الجنوبي مع الطبقات السياسية الاستغلالية في الشمال إلى إن يغدو صراعاً بين الشعبين أصبح التغلب عليه ومداواته من الأمور المتعسرة والمستعصية.
كل هذه المؤيدات تؤكد استحالة العودة بشعب الجنوب إلى صنعاء تحت أي شكل من أشكال الحكم حتى ولو بنظام كونفدرالي بين دولتين شمالية وجنوبية، وحتى لو قبلت فئة من السياسيين الجنوبيين بخيار كهذا فإن الشعب الجنوبي سيرفضها وسيعزلها وسيتصدى لها بنفسه.
المسار الثاني: ويتمثل في الإصرار على اقتطاع القضية الجنوبية من مخرجات مشاورات الرياض، إما من خلال الإصرار على ترحيل النظر في القضية الجنوبية إلى ما بعد هزيمة المشروع الحوثي واستعادة الشرعية للعاصمة صنعاء، وهو الأمر الذي لا تلوح له أية آفاق في المديين القريب والبعيد، أو من خلال الإصرار على التمسك بنظام الأقاليم أو الدولة اليمنية الاندماجية الواحدة، وإجبار الجنوبيين على التخلي عن تطلعاتهم لبناء دولتهم المستقلة والفكاك من كل العواقب المأساوية التي تعرضوا لها جراء  ما سمي بـ"حرب الدفاع عن الوحدة" والتي يسميها الجنوبيون حرب الغزو والعدوان والاجتياح والاحتلال واستباحة الجنوب وأرضه.
هذا المسار لن يؤدي إلى فشل مشروع الدولة الجنوبية أو تهميش وطمس القضية الجنوبية بعد كل التطورات التي شهدتها وبعد النمو والتفرع الذي شهدته الشجرة الجنوبية التي رسخت جذورها في عميق الأرض وأرسلت فروعها في عنان السماء، لكنه (أي هذا المسار) سيؤدي إلى فشل كل مخرجات مشارات الرياض، وأقول كل تلك المخرجات لأن تنفيذها جميعا يتوقف على العامل الجنوبي بنسبة أكثر من 90%، فسلطة الشرعية التي أنتجها مؤتمر تشاورات الرياض تعمل وتنشط من على أرض الجنوب وتتخذ من الجنوب مقراً لها وهي لن تجد مدينة ولا قرية أو ضيعة شمالية تأويها وتوفر لها الأمان، وهي ومعها حكومتها تنطلق في علاقاتها المحلية والدولية من العاصمة الجنوبية عدن، وهي لن تجد قوة عسكرية أو أمنية تحقق لها ما حققته القوات العسكرية والأمنية الجنوبية والدليل واضح في تحرير الساحل الغربي وتحرير مديريات بيحان الثلاث ومديرية حريب وهي المديريات التي عجز "الجيش الوطني" عن الدفاع عنها ناهيك عن تحرير قرية واحدة من قراها، والدليل الثاني الهزيمة التي ألحقتها قوى الأمن الجنوبية بعناصر داعش والقاعدة في محافظتي أبين وشبوة وقبلهما ساحل حضرموت  بعد انسحاب القوات "الشرعية" من هذه المناطق، كما إن القرارات الاقتصادية والمالية والخدمية التي قد تتخذها الشرعية لن تنفذ إلا في الجنوب ولن ينفذها لا وزير ولا محافظ ولا حتى غفير في محافظات الشمال، ناهيك عن أن الموارد المالية التي تتغذى عليها الشرعية وكوادرها ومؤسساتها وبعثاتها الدبلوماسية هي آتية من الموارد الجنوبية ولن تستطيع الشرعية تحصيل ريالٍ يمني واحد من موارد الشمال سواءٌ تلك التي يهيمن عليها الحوثيون وهي غالبية الموارد الشمالية، أو تلك التي يسيطر عليها موالون لأحزاب محسوبة على الشرعية لكنهم لا ينفذون إلا أجندات أحزابهم.
وقد جاء في الوثائق الرسمية للحكومة الشرعية أن محافظتي المهرة ومأرب قد تخلفتا في تسديد وارداتهما من مبيعات النفط خلال النصف الأول من العام 2022م بما قيمته 84.405 مليون دولار، في حين تخلفتاء عن التوريد لنفس الفترة من عام 2021م بما قيمته 119.763 مليون دولار وهي مبيعات النفط لتلك الفترة
في حين سددت محافظتا عدن وحضرموت جميع وارداتهما لنفس الفترة من العام 2021م ولم تتخلفا سوى بما قيمته 12.761 مليون دولار للنصف الأول من العام 2022م. 
وللآسف لم يتضمن التقرير بياناً عن إيرادات كل محافظة لكن القرائن تبين أن الحكومة تعتمد في موازنتها العام على ما تسدده محافظتا عدن وحضرموت المعروفتان بوفرة مواردهما والندر اليسير مما تورده بقية المحافظات، في حين لم يتعرض التقرير لإيرادات محافظات أبين وشبوة وتعز لأسباب غير معروفة.
إن الإصرار على التعامل مع الجنوب والجنوبيين بالمواجهة والتصدي لإرادة الشعب الجنوبي سواءٌ من خلال الرفض العلني لمطالب الشعب الجنوبي كما يفعل الحوثيون والإصلاحيون أو من خلال المراوغة والتسويف والمغالطة كما يفعل آخرون، إنما يمهد لفشل كل محاولة للإبقاء على شعرة معاوية بين الجنوبيين وبين والشرعية (ذات المنشأ الشمالي على الأغلب) وهو ما سيعني الفشل النهائي لمخرجات مشاورات  الرياض والعودة إلى نقطة الصفر في العلاقة بين الجنوب والشمال وبين حاملي القضية الجنوبية والشرعية (الوحدوية).
وينبغي أن لا تفوتنا هنا الإشارة إلى الدور المحوري لدول التحالف العربي في جميع الأزمات اليمنية ومحاولاتها المساعدة على فرملة تلك الأزمات، بيد إنه من المهم الإشارة إلى أن محاولات الأشقاء قي السعودية وبقية دول الخليج تأتي منعزلة عن الأسباب والتعقيدات الجارية على أرض الواقع والمتسببة في تلك الأزمات، وتنطلق من محاولة جمع المتناقضين وتقسيم الطاولة السياسية بينهم على النحو الذي يعتقد الأشقاء بأنه سيرضي جميع الأطراف.
لست متأكداً ما إذا كان الأشقاء يعلمون بطبيعة العقلية السياسية اليمنية التي تقوم على الحيلة والخداع والمكر بهدف الاستحواذ والالتهام وإقصاء الآخر أم لا.
ففي العام 2011م عندما اندلعت ثورة الشباب السلمية ضد نظام الرئيس علي عبد الله صالح، تقدمت السعودية ومعها دول مجلس التعاون الخليجي بمبادرتها التي صارت فيما بعد تعرف بـ"المبادرة الخليجية"، والتي تضمنت تنحي الرئيس علي عبد الله صالح عن الحكم مقابل منحه الحصانة من أية مساءلة وتقسيم السلطة السياسية بين حزبه وأحزاب المعارضة وعقد حوار وطني وتفاصيل أخرى، فماذا كانت النتيجة؟
لقد سعى كل طرف لتكريس وجوده في السلطة للانقضاض على الطرف الآخر وتفاصيل هذه العملية تطول لكن الأمر وصل بجناح علي عبد الله صالح إلى التحالف مع الجماعة الحوثية التي حاربها 8 سنوات، ثم سلمها المعسكرات والأسلحة للانقضاض على النصف الآخر من السلطة وحصل ما حصل في العام 2014م وما تلاه من حرب ما تزال قائمة حتى اليوم.
لا يمكن إنكار الدور الذي لعبته دول مجلس التعاون الخليجي في التهيئة لمؤتمر مشاورات الرياض وفي تيسير جلساته بل وفي المساعدة في صوغ مخرجاته، وتتجلى بصمات الأشقاء في مجلس التعاون في مخرجات المشاورات في الطريقة التوفيقية التي صيغت بها المخرجات والطريق التي شكل بها مجلس القيادة الرئاسة والأسماء التي جرى اختيارها لرئاسة وعضوية المجلس.
لا أحد يتمنى أن تؤول مخرجات مشاورات الرياض إلى ما آلت إليه المبادرة الخليجية لكن  مسار المخرجات مضى على نفس مسار المبادرة الخليجية ومثل تكراراً لها وهذا قد لا يكون بالضرورة عيباً على تلك المخرجات، لكن نجاح هذه المخرجات يتوقف على إدراك أطرافها لما ينبغي أن يفعلوه وما عليهم أن يتجنبوا الوقوع فيه حتى لا يكرروا ما جرى مع المبادرة الخليجية في العام 2014م وهذا ما يمكن تناوله في استخلاصات هذه الدراسة التي لا نزعم أنها ستقدم الوصفة المثلى لمعالجة الأزمة القائمة في البلد.
استخلاصات:

1. إن الأزمة اليمنية  لا تنحصر على ثنائية الانقلاب والشرعية بل إن هناك ثنائية أهم وأقدم وأكثر من هذه الثنائية وهي ثنائية الشمال والجنوب أو لنقل ثنائية دولة اليمن الواحد التي لم تعد موجودة، والدولتين الشمالية والجنوبية التي ستنهي نزاعا هعمره قرابة ثلاثة عقود، ومن المهم الاعتراف أن تجاهل هذه القضية والتركيز على حل مشكلة الشرعية والانقلاب سلماً أو حرباً دون الالتفات للثنائية الأخرى، والتي صار التعبير عنها بالقضية الجنوبية إنما يمفل إما جهلاً بحقائق الواقع أو هروبا منها.
2. وفي ضوء ذلك فإنه من المهم ومن أجل نجاح عمل المجلس الرئاسي كأهم عنصر في مخرجات مشاورات الرياض، يمكن من الآن للقيادات السياسية الشمالية بل وينبغي عليها أن تتخذ قراراً شجاعاً وتعلنه للشعب في الشمال يعبر عن إقرارها بعدالة القضية الجنوبية وحق الشعب الجنوبي في اختيار طريقه المستقل وفقا لإرادته الحرة بما في ذلك حقه في استعادة دولته وبناء نظامه السياسي الفيدرالي الجديد تعبيرا عن مصالح جميع الطبقات والتوجهات السياسية والفكرية والجغرافية الجنوبية.
3. تتتحدث مخرجات مشاورات الرياض عن أهمية "الانخراط في الحل السياسي، والجلوس على طاولة المفاوضات لمناقشة جميع نقاط الخلاف، والتخلي عن الحلول العسكرية، بدءاً بتعزيز الهدنة الحالية والدخول في مباحثات سلام تحت رعاية الأمم المتحدة." ، لكن هاهي الهدنة التي تحدثت عنها المخرجات قد انتهت ورفضت الجماعة الحوثية تمديدها ودشنت حربها بقصف المواني والمرافق الاقتصادية الجنوبية، ما يعني أنها لا تقبل بخيار السلام، وبالتالي سيكون على سلطة الشرعية الاستعداد للخيار الآخر، وهو خيار الحرب وقد جاءت القرارات التي اتخذها المجلس الرئاسي ومجلس دفاع الشرعية لتؤكد هذا، وهنا تنبغي ملاحظة أن مواجهة الجماعة الحوثية في مناطق الشمال هي مهمة أبناء هذه المناطق وسيكون دور أبناء الجنوب دورا داعما ومسانداً لكن الجنوبيين لن يحرروا محافظات الشمال من الحوثيين نيابة عن أبناء الشمال، وفي هذا السياق تنبغي ملاحظة أن ألغالبية العظمى من أبناء الشمال لديها القابلية للتعايش مع هذا الوضع، بخلاف الجنوبيين الذين لن يقبلوا العيش تحت سلطة الجماعة الحوثية ولا أية قوة غريبة غاصبة, فإذا كان أبناء الشمال راضيين بالوضع الذي أنتجه الانقلاب لماذا إلزام الجنوبيين بتحرير أرضهم منهم وممن يحكمهم برضاهم.
4. إن الحديث عن وضع إطار خاص لحل قضية شعب الجنوب في سياق عملية السلام الشامل لا يعني شيئا ونعتقد أن شعب الجنوب لن ينتظر عشرات السنين لتحل قضيته بعد أن يتنفض الشعب الشمالي ضد الجماعة الحوثية، وقد  لاينتفض أصلاً، وبالتالي فإنه ما لم تتصرف النخبة السياسية الشمالية باتجاه إنها الحرب وستعادة دولة الجمهورية العربية اليمنية (أو لنقل دولة الشرعية اليمنية) من أيدي الجماعة الحوثية بالسلم أو بالحرب فإن وقتاً ليس بعيداً سيأتي  قد يجد الشعب الجنوبي وقواه السياسية أنفسهم أمام خيار وحيد لا ثاني له وهو إعلان دولتهم المستقلة سلماً أو حرباً، وهو ما ينبغي أن يدركه الأشقاء في دول التحالف العربي والأصدقاء في المجتمع الدولي.
5. إن الحل الأمثل للأزمة اليمنية يقوم على جزئين: الجزء الأول ويتعلق بالقضية الجنوبية وهذا الحل ينبغي أن يتمثل في العودة إلى وضع الدولتين من خلال العودة إلى حدود العام 1990م، أما الجزء الثاني فيتعلق بأزمة الحرب والانقلاب، أو ثنائيتي الشرعية والانقلاب، والحرب والسلام، وفي هذا السياق ينبغي العودة إلى الحوار وتقديم طرفي النزاع التنازلات المتبادلة من أجل إنقاذ الشعب في الشمال من مآسي الحرب وتبعاتها التدميرية من خلال تشكيل حكومة ائتلافية بالتساوي بين الطرفين تنحصر مهمتها في إعداد دستور دائم ينظم إدارة البلاد على أساس المبادئ التي يتفق عليها الجميع ويقرها الشعب من خلال الاستفتاء الشعبي، والانتقال إلى شرعية دستورية جديدة يصنعها الشعب الشمالي أو الشعب اليمني في الشمال.
6. هناك قضية يجري الحديث عنها على استحياء أو عبر التسريبات الخجولة وتتعلق بمصالح الجنوبيين في الشمال ومصالح الشماليين في الجنوب، ونرى أن هذه القضية لن تكون بدعة من البدع ولا هي الحالة الأولى في العالم، فملايين المواطنين من مختلف دول العالم لديهم مصالح وممتلكات في دول أخرى مجاورة أو غير مجاورة وهناك أنظمة وقوانين تحمي هذا النوع من المصالح أو لنقل تنظم كيفية التعامل معها، لكن هناك خصوصية تتعلق بالمصالح المشتبه في طريقة تحقيقها وخصوصا في الجنوب الذي تعرض للغزو والاجتياح والسلب والنهب على مدى قرابة ثلاثة عقود، وفي رأينا أن المصالح التي جرى تحقيقها بالطرق القانونية لا نقاش بشأنها فأصحابها لا يختلفون عن أي مستثمر من أولائك الذين يدعوهم السيايون والمسؤولون للاستثمار في البلد، أما تلك المصالح التي تمت عن طريق الاستحواذ أو الاغتصاب أو الاستيلاء غير القانوني أو عن طريق سوء استغلال السلطة فإنها يجب أن تخضع للقانون ويجب أن تقدم للقضاء وهو وحده من يقرر مصيرها.
7.  وفي ضوء كل ما قلناه يمكن التأكيد إن الدولة الدينية لا مكان لها لا في الجنوب ولا في الشمال، خصوصا بعد تبلور الاتجاهين الدينيين السياسيين الذين تسببا في الأزمة والحرب ، ونقصد هنا الجماعة الحوثية وجماعة الإخوان المسلمين واللتين تدعي كل منهما أنها هي صاحبة الإسلام الصحيح، وبالتالي فإن الحل هو دولتان مدنيتان دستوريتان تحيدان الدين من الصراع السياسي وتتركان  قضية المعتقد الديني والمذهبي ليكون شأنا شخصيا لكل مواطن وعلاقة تخص كل شخص بمعبوده.
خلاصة الخلاصة
العودة إلى نظام الدولتين الشقيقتين المتجاورتين المتعاونتين المتشاركتين في اليمن ليست فقط مصلحة جنوبية بل هي أيضا مصلحة شمالية وهي بالمثل مصلحة إقليمية خليجية وعربية ومصلحة دولية، لأنها تمثل المدخل الوحيد لإحلال السلام الدائم والشامل في الإقليم والدخول في صناعة شراكات بناءة ليس فقط بين دولة الجنوب ودولة الشمال ولكن مع الأطراف الإقليمية والدولية، شراكات تقوم على فتح أبواب الاستثمار والتنمية وحماية الممرات وتأمين الملاحة الدولية وتحقيق عائدات مادية مثمرة لكل الشركاء في الإقليم وعلى المستوى العربي وعلى المستوى الدولي وهي بالنسبة للدولتين الشمالية والجنوبية ستخدم مصالح السواد الأعظم من ضحايا الحروب والتجويع والإفقار والأوبئة ومصالح الملايين ممن لم يعيشوا بعد مستوى الحد الأدني للحياة الكريمة التي نادى بها رواد التغيير قبل أكثر من ستة عقود من الزمن.
وبالعكس فإن الإصرار وبعناد على استحضار المشاريع الميتة ومحاولة نفخ الروح فيها من جديد بعد أن ماتت منذ زمن، كل هذا لا يمثل سوى مواجهة مباشرة مع حتميات التاريخ، وهذه المواجهة نهايتها الطبيعية الفشل، وليس من شأنها إلا إبقاء البلدين والشعبين في حالة حروب دائمة تحرق ما نجا من حرائق العقود الثلاثة المنصرمة والسير بالشعبين نحو المزيد من الأحقاد والعداوات والخسائر  المهلكة ولن يكون الجنوب وحده فيها هو الخاسر، بل إن خسائر المتبنين لهذا النهج ستكون الأكبر.

مقالات الكاتب