المسلمون وصراع القوى العظمى

منبر عدن - خاص

يعتبر موقف المسلمين في مكة إزاء حرب فارس والروم من أعظم الدروس والمواقف التي تستحق القراءة والتأمل.

لقد كان المؤمنون -يومئذ- جماعة صغيرة مستضعفة، تخوض معركتها الوجودية مع قريش في شعاب مكة، بعيدا عن ساحة الصراع الدولي بين القوتين العظميين (فارس والروم).

لقد كانوا في غنى عن الانحياز لإحدى الجبهتين في تلك الحرب العالمية، وكان بإمكانهم أن يكتفوا بالدعاء (اللهم اهلك الظالمين بالظالمين)!.

كان بإمكانهم أن يكفوا عن أنفسهم عناء الجدال مع طواغيت قريش حول قضية قد حسمت سلفا (المعركة وقعت في الشام، ووصلت أنباؤها إلى مكة بعد حوالي شهر)!.

كان من السهل على أحدهم أن يجد مبررات تبعده عن دوامة السياسة الدولية، ويكتفي بالقول: نحن في محنة أشد، ولنا قضيتنا الداخلية، ولا علاقة لنا بقضايا الأمم الكبرى!

كان بإمكانهم أن يقولوا الكثير والكثير من مبررات العزلة.. لكنهم لم يفعلوا، بل اختاروا أن يكونوا بمشاعرهم في قلب الحدث، وأن يعلنوا عما يعتقدونه بدون تورية أو نفاق.

لقد اختاروا الانحياز إلى الطرف الذي رأوا أنه أقرب إليهم من حيث الدين "أهل الكتاب"، والأقل خطرا على مستقبل البشرية، والأقل خطرا على مشروعهم الطموح. ولم يخفوا هذا الانحياز الشعوري، بل ظهرت آثار الحزن عليهم عندما وصلت أنباء هزيمة الروم، مما جعل قريشا تشمت بهم وتتشفى.

لقد كان موقفا مدهشا حقا، اجتمعت فيه صلابة المنهج مع شمولية الرؤية ومرونة السياسة، فهو درس بليغ للمتصدرين لتوجيه الأمة في أوقات صراع المشاريع وتقاطع المصالح.

لم أجد تفسيرا لهذا الموقف الراشد سوى عظمة التربية النبوية التي جمعت بين صلابة البناء العقدي وسعة أفق الفكر السياسي.
- لقد كانت تربية مقاصدية، عرفوا بها خير الخيرين وشر الشرين.
- تربية واضحة الرؤية، رسخت فيهم عالمية القضية وعالمية الرسالة وعالمية الصراع.
- تربية واعية، منحتهم فهماً عميقًا للواقع السياسي، وأكسبتهم البصيرة بسبل المجرمين وتفاوت مراتبهم.
- تربية متزنة، وسعت مداركهم لمفهوم الولاء والبراء، وميزت لديهم بين المطلق الديني والنسبي السياسي. 
- تربية إيجابية، حررتهم من إكراهات الواقع واستعبادات الرسوم. 
- تربية قيمية، غرست فيهم قيم الصدق والشجاعة في تبني المواقف السياسية والصدع بها.

إن هذه العظمة التربوية، هي التي أثمرت ذلك الموقف، وجعلت أصحابه ينطلقون به دون أي حرج نفسي أو إشكال فكري.

ثم نزل الوحي -بعد ذلك- مؤيدا ومزكيا، بل مبشرا للمؤمنين بأن حليفهم (نصارى الروم) سينتصرون في بضع سنين. ومن روعة البيان أن الله سمى انتصارهم الموعود "نصر الله"!!. 
((الۤمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِیۤ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَیَغۡلِبُونَ * فِی بِضۡعِ سِنِینَۗ . لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَیَوۡمَئذࣲ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ یَنصُرُ مَن یَشَاۤءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلرَّحِیم))

مقالات الكاتب