البردوني والعام ١٩٩٤ (٢)
نواصل ما كنا بدأناه في وقفة سابقة تحت هذا العنوان، لنتوقف عند قصيدة واحدة فقط من مجموعتيه اللتين صدرتا عن الهيئة العامة للكتاب بصنعاء، التي أصبح اسمها "الهيئة العامة للكتاب والنشر والتوزيع".
وكما قلنا فإن عنوان القصيدة "صيف ٩٤" وحده يستحضر ما في الذاكرة الجنوبية واليمنية من خدوش وجراح وندوب وتداعيات تتصل بذلك الصيف المؤلم، لن تزول ولو بعد عقود من الزمن.
حمل النص الذي نحن بصدد سيلا من التساؤلات، أو "اللماذات" بتعبير الزميل الشاعر شوقي شفيق.
فجاء مستهلاً القصيدة بالسؤال "لماذا" وتستمر التساؤلات ب"من"و"هل" و"إلى اين" و"أليس؟" ليغدو النص سلسلة من ثنائيات التساؤل والآجابة والتأويل، وأحيانا الإجابة بسؤال يبحث هو الآخر عن إجابة أو إجابات.
يحول شاعرنا الكبير التساؤل الاستنكاري إلى أداة لإدانة ثقافة الغلبة وتتويج القوة والقهر وتحويلهما إلى سلطة مطلقة مستخدماً ثنائيات (العرس والمأتم)، (اليمنى واليسرى)، (الغانم والمغنم)، (البحر والغبار) و( الشمالي واليميني)
يقول البردوني:
لماذا الذي ادعوه بيتي إذا سها
وأحدث عرساً مدًّ عشرين مأتما
لأن له يمنى تزف جهنَّماً
إلى أختها اليسرى فتغري جهنَّما
لأن له شطراً يسميه غانماً
وشطرا يراه منذ لاقاه مغنما
أليس الشمالي جانحَي كل قوةٍ؟
أليس اليميني يملك البحر كالإما؟
وبعد أن يستعرض بصيغةٍ خبريةٍ لا تخلو من جماليات البلاغة الشعرية البردونية المميزة:
وفي عام تسعين التقى الكل وحدةً
إلى واحدٍ قال ابتداها وتمَّما
لكنه يكشف أن ما جاء بعد ذلك التاريخ كان مختلفا عما سبقه من آمال وأحلام:
تلا آخر التسعين مضمار اربعٍ
رمادية الشدقين نارية اللما
وبعد استعراض تفاعلات المكان ونواح الديار من خلال (ثمود)، (ردفان)، (شبام)، (صيرة)، (المعلا)، (لاعة)، (يريم) و(ميتم)، يدون تنديده علنا ومباشرةً بالتجييش على الجنوب وحشد الفيالق الجرارة لغزوه، هذه الفيالق التي رغم انتسابها إلى الأخوة وتقمصها دور الشقيق لكنها بدت أسوأ من جيوش الروم في روميتها فيقول:
وقال (المكلا) دع بني الروم يا فتى
بنو عمنا أضحوا من الروم أروما.
مواصلاً من خلال التساؤل:
ألاحظت أمواج الحرافيش تنتحي؟
ترى من رمى بالروم والسند (مدرما)؟
أأضعاف أضعاف الجنوبِ تعسكروا
عليه أذاك الحشر يا عمّ؟ ربما
ولم يفت الشاعر التعرض لمن وقف في صف أعداء الجنوب من أبنائه فيشير إلى أن هؤلاء لم ينالوا شيئا من عائدات الغزو فلا هم كانوا جزءً من الزيارة او التسليم ولا تسنموا ناقة من نياق المجيشين بل لقد أصبحوا مجرد هراوات بأيدي المنتصرين:
ولا سنَّموه ناقةً من سمانهم
ولكنه أمسى عصى من تسنَّما.
لكن لغة التساؤلات تتصاعد لتتضمن الإدانة والرفض المعلن للغزو الذي لم يسبقه مثيل.
وحتى الذين يقارنون تجييش الشقيق بغزوة الإنجليزي(القبطان هنس) المعروفة يظلمون هذا ال(هنس) الذي كان أكثر رقيا ونظاماً من هؤلاء الغزاة
يقول البردوني مجيباً على التساؤل بتساؤل مماثل:
ترى (عدناً) يا (شيخ عثمان؟ طلقةّ
تروع المنايا زاحفاتٍ وحوَّما.
ليذيل التساؤل بتسأولٍ أشد مرارة:
تناجت:(اهنس) اليوم عاد معرَّباً؟
قياساً بصنعاء كان أرقى وأنظما
فما ابتزَّ أسواقاً ولا ناش منزلاً
ولا غال مخماراً ولا اجتثَّ مطعما
ولا استلَّ عِقد البِنت أو مرقم الفتى
ولا استنزف السمَّاك تسعين درهما
وأما اخونا انصبَّ كالسيل كيفما
أراد به الإعصار أدمى وحطما.
وقبل اختتام النص يقيم البردوني جلسة تساؤل بين الوافدين والديار والمكتبات والكراريس التي اعتبروها عدواً ومن تعامل معها مداناً:
أجئم تحيلون الديارَ خرائباً؟
أأدري لماذا تهدمون المهدَّما؟
وما ذنب دور الكتب؟ قالوا أرتهمُ
سوى ما نراه ثقفت من تعلَّما
ويواصل بصيغة الأمر:
فبولوا على تلك الكراريس كلكم
وسموا رفيق الحبر وغداً ومجرما
صفوه شيوعياً ولو كان حاكراُ
ونادوه (بوذياً) وإن كان مسلما.
ولا يمكن أن يفوتنا ذلك التلميح الذكي من قبل شاعرنا العظيم إلى بشاعة التسخير الفج للدين في تلفيق الأكاذيب وتزييف الحقائق في سبيل تحقيق أهداف الحرب والغزو البغيضين.
* * *
يقدم لنا نص "صيف ٩٤" للبردوني استعراضاً بانورامياً ورصدا تسجيلياً لما جرى في ذلك الصيف الممقوت، كاشفاً عورات الغزو وجرائم الحروب وتبعاتها المقيتة.
وبرغم جماليات النص من النواحي الشعرية والعروضية والبلاغية، فإن الشاعر يرسم لوحة تراجيدية حالكة السواد عن هذا الصيف البغيض في ذاك العام المقيت، تتجلى ألوانها وظلالها من خلال مفردات "القتل" ، "الدم" ، "الشؤم" "الشدقين الرماديين" "اللما النارية" "مدينة الهول"، "الحشر"، "الخرائب"، "تهديم المهدم" وغيرها من ملامح الخراب والدمار التي تلي كل حرب.
وكعادته يختتم شاعرنا الكبير نصه التراجو-درامي بشيء من التلميحات التي توحي بجرعة امل لا تخلو من الرهان على ما بعد التراجيديا من احتمالات تبشيرية:
لأن الذي ما كان يحسب نبتةً
رقى من مناميهِ حصاداً معمَّما.
ومن إبط ذا الوادي أطلت ثلاثةٌ
كما استنشد الإرعاد صحوٌ توسَّما.
* * *
بعد هذا النص وما يشابهه من نصوص المجموعتين أيبقى ثمة مجالٌ للتساؤل:
لماذا تأخر إصدار هاتين المجموعتين قرابة ربع قرن بعد وفاة صاحبهما؟؟
الرحمة لروح البردوني العظيم.