على عتبة "الدولة الجنوبية"
لم تعد استعادة الدولة الجنوبية فكرة، بل هي واقع حاضر. وباتت الدولة تكاد تكون حقيقة وليس هنا استدعاء لتاريخ بمقدار ما يعتبر محاولةً أولى في التعايش مع هذه الدولة وما يجب أن تكون عليه.
وبإعلان الميثاق الوطني في الثامن من مايو 2023 وضعت الخطوط العامة ومنها شكل الدولة السياسي وهي محددات أساسية انتهت إليها لجان الحوار، وعليه فإن ما يجب أن يتداول بداية مفهوم الدولة المدنية التي يريدها الشعب الجنوبي باعتباره المعنِي الأول بهذا الحق الذي ناضل من أجله طويلاً. الجنوبيون لهم تجربة سياسية فريدة بعد الاستقلال الأول في العام 1967، فلقد أسسوا نظاماً حاكماً فريداً في المنطقة العربية بإقامة نظام سياسي مدني مستند على قيّم المواطنة.
والتكوين السياسي الذي اعتمد على نهج علماني صِرف كانت معضلته أنه اتجه إلى استنساخ التجربة الاشتراكية بالمطلق، وحاول إسقاطها على مجتمع محافظ دون استيعاب خصوصيته. ورغم أن اليمن الجنوبي لم يكن البلد العربي الوحيد الذي استنسخ النظام الاشتراكي، فقد كانت مصر وسوريا وليبيا من هذه البلاد غير اليمن الجنوبية تطرفت في انتهاجها الأفكار الماركسية. التصادم حدث مبكراً مع اليمن الجنوبي وعلى إثرها اندلعت حرب الوديعة.
والحرب الباردة الأولى كذلك ألقت بظلالها حتى وصلت إلى سقوط الاتحاد السوفييتي، الذي شهد معه دخول اليمن الجنوبية مع الجمهورية العربية اليمنية في اتحاد سياسي عام 1990. توصلت القوى السياسية للجنوب إلى ميثاق وطني جاء في أحد أبرز بنوده النص: (دولة الجنوب تُبنى على أساس الدولة الفيدرالية الديمقراطية المدنية العربية الإسلامية)، هذا التعريف، وإنْ كان فضفاضاً غير أنه هذه المرة يحاول التماشي مع واقع المنطقة العربية، التي تخففت من عباءة الرجعية وتلبست بشيء من المدنية على الأقل في مظهرها العام، دون المساس بعمق الدولة وتكوينها، محصلة الحال أن الجنوبيين يحاولون التماهي مع محيطهم الإقليمي بدلاً من التصادم معه.
سيبرر واضعو الميثاق الجنوبي بأنهم استفادوا من دروس التاريخ، وأخذوا العبرة، فلن يغامروا كما غامر آباؤهم بمصادمة محيطهم، ولكن هنا يأتي تساؤل إن كان الجنوبيون قد نظروا إلى أنفسهم كما نظروا لمحيطهم الذي بدوره بات أقرب إلى ما كانوا عليه في ستينيات القرن العشرين.
فلم يعد الإقليم رجعياً، ولم تعد الشيوعية خصماً لدوداً، تغيرت الأزمنة وتطورات النظم السياسية فهذه من مسلمات الحال، ولذلك يلح السؤال إنْ كان الجنوبيون قد نظروا إلى ما نالهم من تغيير كما نال غيرهم؟ اعترى الجنوب متغيرات منذ العام 1990 فلقد تمددت التيارات ذات النزعة الدينية المتطرفة كما تمددت الأفكار القبلية بعاداتها القديمة، متغيرات حقيقية أصابت الجنوبيين وأحدثت تجريفاً مهولاً في القيمّ.
فالأجيال التي استفادت من التعليم إبان الاستعمار البريطاني في عدن والسلطنة «القعيطية» في الساحل الحضرمي بلغت من الكِبر عتيّا، كما أن جيل الاستقلال الأول، الذي استفاد من المنح التعليمية المجانية للدول الشرقية مصاب بالإرهاق والنصب بعد عقود شاقة للخلاص من دوامة اليمننة.
جيل الاستقلال الثاني تعرض لأبشع ما يمكن من حملات التجهيل فهو مرتهن بين خطاب ديني مشبّع بالكراهية وآخر قبلي مشدود للعصبية، هذه حقيقة الحال مع بلوغ عتبة الاستقلال الوطني، وحتى مع ما يمثله هذا الواقع فإن المأمول أن تتعامل القيادة السياسية باقتدار فلا يمكن التصحيح إلا من أعلى سلطة سياسية التي عليها وضع الإسهام بوضع دستور وطني يضمن حق المواطنة ويرفع من سلطة القانون دون اعتبار لتلك الآراء المستوردة من جهات قد كفرت بما صدرته للعالم وها هي تقيم مواسم الحفلات الصاخبة وتحتفي بالشيوعي الأخير.