البلدان المستهلكة غير آمنة ولا مستقرة
البلدان المنتجة آمنة ومستقرة اقتصاديًّا، والبلدان المستهلكة غير آمنة ولا مستقرة، وشبح الفقر يلوح دائمًا في أفقها. ونحن -مع الأسف- مجتمع فقير جدًّا ومستهلك استهلاكًا غير معقول، فلا يُعقَل في بلد أنهكتْه الحرب والأزمات وسحقه الفقر أن تتمدد فيه الأسواق (المولات) والبنوك وشركات الصرافة ومتاجر (السوبر ماركت) تمددًا غير منطقي.
هنا في محافظة عدن (على سبيل المثال) في السنة الأخيرة فقط، افتُتحت عدة (مولات) كبرى، وبعضها يتهيأ الآن للافتتاح، وكل يوم نقرأ في لوحات الإعلان عن (بنك) جديد يُفتَح، حتى صارت عدن تنافس كبرى المدن العالمية في (عدد) البنوك!، وأما مراكز الصرافة فلا تسل عنها، ففي كل ركن مصرف، وبين كل حارة وأخرى ترى محل (سوبرماركت) أو (هايبر) تشرع أبوابه للمستهلكين.
وقبل يومين مررتُ بأحد هذه (المولات) الجديدة، ورأيت فيه عشرات المعارض المليئة بالأقمشة والملابس الفاخرة، ومع أنه موسم بيع مع قرب رمضان والأعياد، وفي وقت المساء، إلا أن هذه المعارض ليس فيها على كثرتها سوى الباعة فقط. وإذا كان باعة الملابس في الأسواق الشعبية يشتكون من قلة إقبال الناس إلا على الملابس الرخيصة، فما بالك بمحلات تستهدف الطبقة الوسطى التي تكاد تنعدم حاليًّا، أو الطبقة الثريّة، وهم شريحة ضئيلة من المجتمع فيعتمدون على الشراء من الخارج أكثر من الداخل.
وصدقوني -قرائي الكرام-، وأرجو أن تصل رسالتي إلى رجال المال والأعمال، لن ينمو الاقتصاد بهذه الطريقة، بل سيزيد ضعفًا ودمارًا، لأن الاستيراد من الخارج يعني تحويل ما في البلد من العُمُلات الصعبة إلى البلدان المصدِّرة إلينا، وسيترتب عليه مزيد من الأزمات الاقتصادية على البلد المأزوم أصلًا، وستعود بالويل على المواطن المستهلك المسكين.
إن أردتم بناء اقتصاد البلد، والاستثمار الحقيقي الذي سيدر عليكم المال، وسيكون مصدر أمان للبلاد، في السنوات العجاف القادمة، فركِّزوا على خمسة جوانب، وأنتجوا فيها، وهي: إنتاج الغذاء، وإنتاج المياه، وإنتاج الغاز الحيوي، وإنتاج الطاقة الكهربائية، وإنتاج الدواء.
وحسب ما أفادني بعض أهل الخبرة والمعرفة، فلكل واحد من هذه الجوانب الخمسة الضرورية تقنيات جديدة، فالأشقاء في الأردن (مثلًا) وصلوا إلى تقنية إنتاج الغذاء بالبيوت المحمية، وبعض البلدان المجاورة صارت تنتج الغذاء عن طريق الزراعية المائية، وكلها طرق لا تحتاج إلى التربة، ونحن في بلد فيها مزارع واسعة خصبة لكنها مهملة ومعطّلة بكل أسف.
وقد وصلت بعض بلدان العالَم اليوم إلى تقنية إنتاج الماء بامتصاص الرطوبة من الهواء، وتحويلها إلى ماء عذب نقي، بأجهزة يمكن أن تركَّب في الأحواش وأسطح المنازل، ونحن في بلد سواحله شاسعة عالية الرطوبة صيفًا وشتاء، فضلًا عن تقنيات أخرى للاستفادة من مياه البحر ومياه السيول ومياه الصرف الصحي.
أما الغاز الحيوي، فبدلًا من الاتجاه إلى باطن الأرض (وبلادنا غنية وثرواتها ما زالت بكرًا) إلا أنه في أسوأ الأحوال يمكن الاستفادة من المخلفات العضوية للبشر والحيوانات والأشجار، وتحويلها عبر مفاعلات حيوية إلى غاز الميثان، المكوِّن الأساس لغاز الوقود. وستصير القمامة ومخلفات الحيوانات والمجاري كنوزًا يتنافس أصحاب هذه المفاعلات الحيوية على امتلاكها، وستدرُّ عليهم دخلًا أفضل بكثير من تأجير المحلات في الأسواق التجارية.
وأما إنتاج الطاقة الكهربائية، فقد تطورت تقنيات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطلاء الشمسي وغيرها، وصارت بدائل قوية لمحطات الكهرباء التقليدية، وصار بإمكان كل بيت أن يستقل بمنظومة كهربائية كاملة ونظيفة، متى ما توفرت الإمكانات لذلك، وبقي أن يتجه الاستثمار داخليًّا لإنتاج هذه الطاقة بدلًا من استيراد الألواح والبطاريات والأجهزة وغيرها من الخارج.
وأما إنتاج الدواء، فأعني به الاستفادة من التنوع النباتي الضخم في بلادنا، ووجود أنواع كثيرة من الأعشاب الطبية، والاتجاه إلى إنشاء معامل تقوم بالتحليل الكيميائي للنبات، بإشراف علماء متخصصين، لإنتاج أدوية تغطي الاستهلاك المحلي، بعد اجتياز هذه الأدوية لكل مراحل الاختبار وتحديد صلاحيتها للمستهلك.
وصدقوني... فالسنوات القادمة مخيفة، والأحداث تتسارع، ولا ندري إلى أين تتجه؟ ولو اندلعت حرب عظمى (أعاذنا الله وكل العالم منها)، وسُدّت طرق البحر والجو ومنافذها، فسنموت جوعًا، ما لم تتجه الجهود من هذه اللحظة إلى الإنتاج.. والإنتاج فقط.
والله من وراء القصد.
وكتبه: نادر سعد العُمَري
14 شعبان 1445
24 فبراير 2024م