ترامب والقضية الفلسطينية
يقول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إن غزة لم تعد أرضاً صالحةً للعيش ويضيف "إنها جحيم ولا يمكن لأي إنسان أن يعيش في الجحيم"؛ وبناء على هذا طرح رأيه (الذي بقدرة قادر منحه الإعلام العربي الغبي صفة الخطة وأصبح اسمه خطة ترامب) والذي يقترح بموجبه نقل السكان الفلسطينيين إلى مصر والاردن.
طبعاً لم يقل لنا ترامب لماذا تحولت غزة إلى جحيم؟ ولا من أوصل أهلها إلى هذا الجحيم؟ دعك من إنه لم يفكر في رأي الفلسطينيين ولا في وجودهم التاريخي على هذه الأرض، ولا في رأي الدول التي يريد نقلهم إلى أراضيها، وكما قلت في منشور سابق فإن هذا الترامب يتعامل مع قضايا العالم المعقدة والتاريخية كما يتعامل مع شركاته ومؤسساته التجارية والاستثمارية، أما البشر عنده فلا قيمة لهم ولا لآرائهم ومشاعرهم وتطلعاتهم وتمسكهم بهوياتهم وانتماءاتهم، وكل قيمتهم تتلخص عنده في أنهم مجرد مستهلكين للبضائع وصانعو أرباح لشركاته وبقية الشركات الأمريكية.
ترامب لم يتعرض لجذور المشكلة الأساسية في فلسطين والمتمثلة في استجلاب وصناعة شعب كان موزعاً في عشرات البقاع من العالم، لا يجمع بين أفراده أي جامع سوى جامع العقيدة الدينية، وتوطين هذا الشعب المستجلب في أرض بها سكانها الأصليون، الذين يقيمون على ترابها منذ آلاف السنين.
وبكلمات قليلة، استجلاب شعبٍ مصنَّعٍ، ليحل محل شعب حي وأصيل على تلك الأرض.
ترامب لا تهمه هذه الحقيقة، فهو يتعامل مع غزة والدمار الذي ألحق بها وكأنه حالة طارئة منقطعة عن مجريات وتفاعلات وتأثيرات التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا عبر آلاف السنين.
يقول الدبلوماسي الامريكي السابق لينكولن بلومفيلد إن ترامب يتحدث في أمورٍ كثيرة شديدة التعقيد لا يعلم الكثير من تعقيداتها وتفاصيلها وخلفياتها التاريخية، ويرى هذا الدبلوماسي أن أفكار ترامب حول غزة وسياسات التهجير (The Transfer or Displacement) سيكون مصيرها الفشل الذريع، لأنها لا تقوم على أساس من الدراسة والإلمام بظروف ومتطلبات نجاحها وممكنات وجدوى تسويقها وتنفيذها.
ومن هنا يأتي السؤال الذي ينبغي التوقف عنده بجدية وعمق هو: هل يمكن أن تنجح هذه الأفكار؟ وما جدوى التعاطي معها في حل الصراع ألفلسطيني-الإسرائيلي؟
يرى الكثير من الباحثين والمحللين السياسيين أن فكرة الترانسفير (وهي فكرة قديمة تعود إلى نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي) ستؤول إلى الفشل ويستحيل تنفيذها لغياب شروط ووسائل التنفيذ، لكن بعض المتعمقين في أدراك ومعرفة نظريات صناعة القرار السياسي الأمريكي والإسرائيلي يرون أن هذه الدعوة هي عبارة عن فقاعة إعلامية كبيرة لها عدة أهداف أهمها إنقاذ ناتانياهو من السقوط السياسي من خلال التغطية على فشل حربه على غزة، وتجنيبه الذهاب إلى القضاء الإسرائيلي ومنها إلى السجن، والهدف الثاني هو تمكين إسرائيل من بسط المزيد من النفوذ على المزيد من المساحات في الأراضي الفلسطينية وتعطيل ما تبقى من خطة وقف إطلاف النار في غزة، وأخيراً توسيع دائرة التطبيع مع المزيد من الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
ومرةً أخرى هل يمكن تحقيق ما يريده ترامب؟
إن الرئيس الأمريكي لا يقيم وزناً للدراسات المتأنية والبحوث العلمية والسيسيولوجية والسياسية الرصينة التي يفترض أن تعدها مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية، (وما أكثرها في أميريكا) ومن ثم يبني عليها تصريحاته وأفكاره ومبادراته ومساعيه، ثم قراراته السياسية، وهو في الغالب يرمي بفقاعاته بصورة ارتجالية وبعد ذلك يدع فريقه السياسي والدبلوماسي والإعلامي ليفسر للناس ما يريد أن يقوله، ولذلك فقد لاحظنا ذلك الارتباك والتشوش في تفسير هذه التصريحات من قبل أتباع ترامب، وكيف يحاول الكثيرون من ممثليه وأعوانه ترقيع الثقوب التي تحتوي عليها أحاديثه، وبعضهم يحاول تجميل ذلك القبح الذي تحتويه تلك الأحاديث، بين من يقول أن فكرة نقل الفلسطينيين تعني النقل المؤقت؛ ومن يقول أن هذه مجرد فكرة عن السماح بالهجرة الطوعية وليست تهجيراً إلزامياً، بين من يقول أن أمريكا ستتولى إعادة إعمار غزة، ومن يقول إن دولاً عربية هي من سيمول هذه العملية، بين من يقول أن أمريكا سترسل قوات مسلحة أو شركات أمنية أمريكية إلى غزة ومن يقول عكس ذلك.
وبرغم كل الشجب والاستنكار والاستغراب الذي بدا هنا وهناك فإن بعض الأطراف غير العربية وحتى العربية قد تعيد النظر في مواقفها المعترضة أو المحتجة أو المتحفظة تجاه هذه الأفكار، والقبول بالشر (القليل) تجبناً للشر الأكبر كما هو راسخ في العقل الباطن لبعض الساسة والإعلاميين العرب، حيث ينظر الكثير من هؤلاء إلى ما يقوله الأمريكيون على إنه أمرٌ ملزم التنفيذ ومن لم ينفذه سينال الويل والثبور وعظائم الأمور.
ولم يتعلم هؤلاء من تجربة كوبا أو فانزويلا وغيرهما من دول أمريكا اللاتينيبة التي تصغر مساحة بعضها مساحة الدول العربية متوسطة المساحة والسكان، ومع ذلك تجهر بلاءاتها المتعددة في وجه البعبع الأمريكي دون أن تخشى ردات فعل هذا البعبع.
لكن أمرين يستحيل أن يتحققا وهما كفيلان بإفشال هذه الأفكار المتهورة والمتعجرفة لرئيس الدولة الأقوى في العام وأعني هنا:
1. استحالة ذهاب المملكة العربية السعودية للتطبيع مع دولة عدوانية ارتكبت بحق المسلمين الفلسطينيين ما لم ترتكبه أية قوة نازية أو فاشية أو أبارثيدية بحق أي شعب في العالم إذا ما استثنينا ما فعلته النازية الألمانية بيهود ألمانيا (الذين يثأرون اليوم من الفلسطينيين بما فعلته بهم تلك النازية) وقد سمعنا ما تضمنه حديث الأمير تركي الفيصل تعقيبا على حديث ترامب حينما قال: إن مشكلة الصراع في المنطقة ليست الفلسطينيين بل هي في إسرائي وسياساتها وطرائق ترسيخ وجودها.
وقد جاء رد المملكة الشقيقة على ترهات رئيس وزراء إسرائيل ناتانياهو التي تفوه بها عن إقامة دولة للفلسطينيين على الأراضي السعودية، ليؤكد أن التطبيع مع هذا الكيان العنصري المتعجرف والمتمرد على كل المعايير الدبلوماسية والسياسية والقانونية والأخلاقية إنما يمثل خسارة على المتهافتين على التطبيع معه.
كما سمعنا ماذا يقول الكثير من فلسطينيي غزة وهم يقولون إنه وبعد تجربة التهجير في 48 التي قيل إنها مؤقتة فتحولت إلى هجرة دائمة وإجبارية، لن نقبل بالتهجير حتى لو بقينا على الأطلال والخرائب ولو متنا على هذه الأرض وهذا يكاد أن يكون رأي الغالبية من أبناء وبنات غزة.
إن رئيس أمريكا لا تهمه الحقائق التاريخية، ولا المنطلقات القانونية والحقوقية ولا حتى الاعتبارات الدبلوماسية والإنسانية بقدر ما يهمه استرضاء الكيان الصهيوني الصديق له ولإدارته، وسيفشل في سياساته وستعلو أصوات وإرادات الشعب الفلسطيني الأعزل من السلاح في وجه التراسانة العسكرية الصهيونية (الإسرائيلية والأمريكية) الوجهه ضده وصد حقوقه التاريحية.