سَمرقند .. جنة عدن الشرق القديم

منبر عدن - خاص

الرحلة من موسكو الى جنـوب الاتحاد السوفيتي هي بالنسبة لنا نحن العرب الدارسين هنـاك رحلة الى موطن الدفء وأجواء الشرق وغوص في أعماق التاريخ المشرق للحضارة الاسلامية التي يفوح عبقها وشذى أريجها مــن خلال شواهدها وآثارها المعمارية الفريدة التي تتحدى بشموخها نوائب الاهمال وصروف الدهـر وتجتذب بروعتها  كل السـواح والزوار..
وحينما نظمت جامعتنا رحـلة الی سمرقند حرصت للفوز بهـذه الرحلة الى هذه المدينة التـي سمعت عنها كثيراً وقرأت أكثر، وزاد هيامي بها وشوقي وحنينـي إليها حين سمعت بهذا النبأ.. السار الرحلة الى سمرقند.. فوصلت إليها مع فوج من الطلبـة العرب والأجانب من ضمنهم بعض اليمنيين نتحرق شوقا لمعانقـة هذه الفاتنة بجمالها وملامحهـا الشرقية الأصيلة وها هي تفتح لنا ذراعيها مرحبة كما فتحت قبل ذلك صدرها للقائد العربي قتيبة ابن مسلم حينما جاءهــا عام ٧١٢م فاتحاً وحاملاً لـواء الحضارة الإسلامية التي ارتبطت بها سمرقند وغدت بعد ذلك واحدة من اشهر المدن الاسلامية ومراكز الاشعاع الحضاري في العالم فاستحقت أن توصف وبحق بـ "جنة عدن الشرق القديم"  و"الدرة النفيسة الشرق الإسلامي"، وغير ذلك من الاوصاف..
وسمرقند مدينة الأساطير والعجائب، بل أنها ذاتها أسطورة استعصت على الاسكنـدر المقدوني الذي طمع بها ثلاث مرات في القرن الرابع قبل الميلاد ... كما لم يستطع بعد ذلك غزاة جنیکزخان ان ينالوا منها ومـن رابطتها القوية بالحضارة الاسلامية حينما غزوا المدينة في ۱۲۲۰م وتدميرهم لها بمساجدهـا ومدارسها، بل أنهم، حسب شهـادة ابن الأثير الذي عاصر الاحداث، لم يشفقوا على أحد فقتلوا النساء والرجال والاطفال وبقروا بطـون الحوامل.. الــخ.
فلقد نهضت سمرقند من جديد واستعادت مكانتها ومجدها وحازت على شهرتها الواسعة في القرنيـن 15-14 حين غدت واحدة من أهم المراكز العلمية والدينية، والى هذا الزمن يعود تشييد وبناء المعالـم والآثار الاسلامية التي اشتهرت وتشتهر بها سمرقند حتى اليوم.

حكاية الولي الحي

من أهم الآثار المعمارية الفريدة مزار "شاخي زيناد" الذي يطل على مرتفع في طرف سمرقند القديمة وهو عبارة عن أضرحـة ومساجد عديدة بُنيت جنب بعضها البعض بشكل تنازلي تكَوِّن جميعها بقبابها وجدرانها المطرزة لوحات فسيفسائية جميلة، وبنقوشهـا وكتاباتها العربية آية فريـدة للديكور الاسلامي في القرون الوسطى حين استكمل بناء هذا المزار.
وكلما صعد الزائر درجات السلم المؤدية الى نقطة البدء في هـذا البناء الضخم كلما توغل في اعماق التاريخ الذي يقف ببهائه وجلالـه يحكي للأجيال أمجاد الأجـــداد وعظمة جهدهم وروعة اسهامهم في تشييد مداميك حضارتنا الإسلامية، ولابد للزائر ان يستمع الى حكاية ولادة هذا المزار، وملخصها أنـه عاش هنا ولي الله قثم ابـن عباس الذي شهد فتح سمرقند وواصل نشر الاسلام بعد الفتح الإسلامي وذات مرة أكمــل خطبته أمام المصلين وعلــي الفور بتر رأسه عن كتفيه وأخـذه تحت ابطه ثم اختفى عبر کوة ضيقة في كهف، حيث يعتقد أنه يواصل الحياة حتى الآن، ومن هنا جاءت تسمية الموقع "شافي زیناد"، أي "الولي الحي" حيث أصبح ضريحه مزاراً يؤمه المسلمون من سمرقند وغيرها من المدن للتبرك به والتبرع لترميم ضريحه من خلال وضع النقود في صندوق كتب عليه بالعربي صدقه ـ والى جانب ضريح قثم ابن عباس تتوالى بقيـة الأضرحة والمساجد التي يمثل كل منها لوحة ناصعه للهندسـة المعمارية والزخارف الاسلامية الرائعة ويصاب المرء بالحســرة وهو يرى التداعي والتشقق ينخر جدرانها ولوحاتها الفسيفسائيـة وكتاباتها العربية التي رسمت بأحرفها آيات قرآنية عديدة..

حلم تيمورلنك

في نهاية ومطلع القرنين 14- 15 ازدادت شهرة سمرقند حينما اتخذها الحاكم الطاغية تيمـور لنك عاصمة لامبراطوريته وسعى لأن تكون عاصمة الدنيا التي لا تضاهى، ومنها أراد ان يحقق حلمه في سيادة العالم حيث أكد معاصروه انـه قال :" مثلما يوجد إلهٌ واحد في السماء.. هكذا يجب أن  يوجد قيصر واحد على الأرض.. العالم ينبغي أن لا يخضع لأكثر من قيصر".. وأراد أن يكون هو ذلك القيصر. وإن لم يحقق تیمور حلمـه فـي سيادة العالم الا انه جعل مـن سمرقند مدينة لا تضاهى بجمالهـا وروعتها وجلب لبنائها  بالقـوة البنائين والمهندسين والنفـائس من البلدان التي احتلها من الهند شرقا الى تركيا وسوريا غربـاً وعلى جثث ودماء الكثيرين شيدت القصور الخيالية والحدائق الغنـاء واحاط المدينة بسور منيع بست بوابات وأطلق على بعض الأماكن المحيطة اسماء مثل القاهرة، دمشق، بغداد، شيراز، ولازالت احياء سمرقند تحتفظ ببعض هذه الاسماء حتى اليوم.
وإلی عهد آل تيمور يعود استكمال مزار " شاخي زيناد" والجامع الكبير "بي بي خانم" الذي كانت منارتاه وقباب مساجده تحرس المدينة. وتتسع مساجده وساحة المصلى لكل سكان المدينة من المصلين، وعلى الرغم من تهدم أجزاء كبيرة من الجامع الا ان بقاياه تبين ليس فقط ضخامته وشموخه بل وروعة بنائه ونقوشه وهو الآن قيد الترميـم البطيء..
ومن عجائب سمرقند ضریح آل تيمور المسمى "قبر الأمير" بقبته الشهيرة التي وصفها الشعراء بالقبة الفيروزية، ولا تقل النقوش من داخل الضريح عن روعة القبة التي يرقد تحتهـا تيمور الحاكم واولاده وزوجته.
قلب سمرقند
ساحة ريجستان، التي تعني المكان الرملي  هي قلب سمرقند القديمة ومركزها التجاري، وتزدان الساحة بثلاث من أروع الآثار المعمارية الفريدة في العالـم،  كانت في القرون الوسطى مراكـز دينية وعلمية شهيرة، الأولــى مدرسة العالم والفلكي "اوليغ بك" صاحب الأفضال في علم الفـلك، وإحداثياته في – جداول النجوم – لا زالت تحتفظ بأهميتها حتى اليوم، وهو الذي حدد حساب طول العـام باليوم والساعة والدقيقة والثانية، وبغلطة اقل من دقيقة واحدة عـن معطيات العصر الحديث، وقد شيد المدرسة خلال الأعوام 1417-١٤٢٠م وكانت مدرسة إسلامية عليا وجامعة فريدة في ذلك العهـد، درس فيها أشهر العلماء بما فيهم مؤسسها العالم أوليغ بك الذي جمع حوله مدرسة كاملة من علماء الدين والفلكيين وعلماء الرياضيات مثل ابن مسعود والرومي ومحمـد الهفوفي.. الخ . وشيد في وقت لاحق المرصد الفلكي الضخـم لتحقيق ابحاثه العلمية..
وفي مواجهة مدرسة اوليغ شيدت مدرسة "قصر الأسد" في أعوام1619-1636م والتــي تعكسها كالمرآة بشكل بنائهـا وبقبابها ونقوشها التي لا تميزهـا عن نظيرتها الا بصورتي الأسـد التي تعلو مدخلها الرئيسي.
وخلال الأعوام - ١٦٤٧-١٦٦٠م شيد في الجهة الأمامية الجامع او المدرسة ، المرصعة بالذهـب، وهي عبارة عن مدرسة دينيــة ومسجد مطلي من الداخل بالذهـب وقد بلغت المساحة المطلية بالذهب بعد استكمال العمل في زخرفــة المسجد عام 1679م من الداخـل ألف متر مربع.
إن من يقف مثلي أمام هذه الشوامخ والمعالم الاسلاميـة تنتابه مشاعر مزدوجة من الفرحـة والاعتزاز بحضارة الأجداد والأسى والحسرة لفقدانها مكانتها الدينية والعلمية حيث أصبحت كمتاحـف فقط تحت اشراف الدولة مـع ما نجم عن ذلك من إهمال ونسيان أدَّى ويؤدي الى تدهور حالهــا وتساقط أجزاء منها، وتأمل الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى الى إعادة هذه المدارس والمساجد الى سابق عهدها فيما اذا حظيت بنصيب وافر من الدعم من أموال المسلمين النفطية لصيانتها وترميمها والحفاظ عليها وهو ما ينتظره مسلمو المدينة بفارغ الصبر، والذين ما ان يعرفوا أن الزائر عربي حتى يبادلوه السلام بلغة عربية ويفاتحوه همومهم ويحملوه عتابهم على هذه القطيعة التي لا مبرر لها، خاصة بعد ريــاح التغيير الغرباتشوفية، من قبـل أخوانهم العرب والمسلمين، وقد وجدت الكثيرين ممن يتحدثون العربية بطلاقة وهم يتحدثون بحماس عن رغبتهم في استعادة الأحرف العربية للغتهم الأوزبكية، التي حلت محلها الأحرف الروسية منذ عام ۱۹۲۷م بأمر ستاليـن، للترابط الحضاري والثقافي الـذي تكوَّن طيلة القرون الماضية، وهو ما يفسر الاقبال المتزايد لدراسة اللغة العربية والتحمس لاستعادة مكانة المدينة الشهيرة ..

نُشر في صحيفة "14 أكتوبر"، 12 سبتمبر 1991م.

د. علي صالح الخلاقي