أحداث غزة وقوانين التاريخ

منبر عدن - خاص

عجلة التاريخ متحركة لا تتوقف، لكن حركتها بطيئة، تدور بقانون السببية الكوني القَدَري، والمسبَّبات فيها مربوطة بأسبابها، ولا مجال للمعجزات في هذه الحركة المنسجمة الدائبة إلا في حدود ضيقة جدًّا لا يصح التعويل عليها، لأن الخالق سبحانه أنشأ الحياة وسيّرها بهذا النظام الدائب الدائم الدقيق.

وما يحدث في غ..زة الشه..يدة ليس بِدعًا من هذا، بل هو نتاج ثمانين عامًا من الخذلان والتآمر والمكر الكُبّار، ولم تنطلق آلة الموت الصه..يونية في هذه الجولة الأخيرة حتى رأت أن فرصتها حانت لابتلاع أرض جديدة، وإنهاء أي حق أو وجود عربي في فلسط..ين، لتنتقل إلى ما جاورها لتحقيق هدفها المرسوم على رايتها منذ أن كانت فكرة في رؤوس آباء الصهيونية ببناء دولة إسرا..ئيل الكبرى الممتدة من الفرات إلى النيل وإلى شمال الحجاز.

والتاريخ يقول لنا إن الصليبيين جاؤوا يومًا ما إلى الأرض نفسها، وأحرقوا المدن، وقتلوا في يوم دخولهم إلى القدس أكثر من سبعين ألف إنسان، حتى امتلأت ساحات المسجد الأقصى بالجثث، وظل الصليب مرفوعا على قبة الصخرة أكثر من تسعين عامًا، حتى تهيأت أسباب النصر تدريجيًّا عبر عدة أجيال، وتحقق تحريرها منهم في عهد السلطان الناصر صلاح الدين رحمه الله.

ويقول لنا التاريخ أيضًا إن المغول اجتاحوا العالم الإسلامي بقيادة جنكيز خان بدءًا من سنة 616هـ، وظلت موجاتهم تتدفق على البلاد الشرقية من العالم الإسلامي، وبلغ الأمر ذروته بوصولهم إلى بغداد بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان سنة 656هـ، وقتلهم لأغلب سكانها، حتى زاد عدد القتلى في أربعين يومًا على (مليون) قتيل، وربما ضِعف هذا العدد، وخربت بغداد، وانتهت الخلافة الإسلامية العباسية فيها، وتدفق المغول غربًا يجتاحون مدن الشام، في الوقت الذي كانت فيه مصر غارقة في صراع السلطة بين المماليك، بعد أن لفظت الدولة الأيوبية أنفاسها، ويشاء الله تعالى للأسباب أن تتهيأ سريعة، وأن يظهر من بين أولئك المماليك قائد تجتمع عليه القلوب، هو المظفَّر سيف الدين قُطُز رحمه الله، ويقود المصريين إلى أعظم نصر حققوه في تاريخهم منذ خُلِقت مصر، حتى الآن، وهو سحْقُهم للمغول في عين جالوت، التي تكاد تكون معجزة!

ويقول التاريخ أيضًا إن الفرنسيين اجتاحوا الجزائر، وبقوا فيها مئة وثلاثين سنة، وقتلوا من أهلها في هذه المدة الطويلة أكثر من خمسة (ملايين) إنسان، منهم أكثر من (مليون) جزائري في أثناء حرب التحرير الأخيرة، وحاولوا على مدى خمسة أجيال تغيير الجزائر لتكون "فرنسا الجنوبية" هويةً ولغةً ودينًا وثقافة وسكانًا، لكنهم فشلوا، وخرجوا منها مدحورين، ولم يبق لهم من أثر سوى الذكرى الأليمة واللعنة التي تطارد فرنسا الشريرة إلى الأبد.

وفي التاريخ أمثلة لا تحصى لأمم غالبة غُلبت بعد سؤددها، وأمم مغلوبة من بعد غَلَبهم يَغلبون، وعجلة التاريخ تدور ولا تتوقف، وليس مما نشتهيه أن نعلم أن الحروب من أعظم محركات التاريخ، وأن ما يحدث في واقعنا البائس لن يتغير إلا بحرب كونية عظمى، تهوي بها أمم إلى الأسفل، وتصعد بها أمم أخرى إلى الأعلى، وقد تكون الحرب الاقتصادية شرارة من شراراتها الأولى، وربما ما قبل الأولى.

وقد تُدمَّر غ..زة وكل فلسط..ين، وربما يموت من أهلها مئات الآلاف، ويُهَجَّر الباقون، أسوة بمدن دُمّرت قبلهم في التاريخ، وأناس كثيرين ماتوا مظلومين، فحركة التاريخ وقوانينه لا تعرف الرحمة، ولكن الذي قَدّر هذه الحركة هو الحكيم الخبير، وهو الرحمن الرحيم، وهو المنتقم الجبار، والأمر المحتوم الذي أخبرنا عنه سبحانه من عليائه أن انتفاشة الصهيو..نية لها أمد، وإفسادهم في الأرض إلى غاية ((وإنْ عُدْتُمْ عُدْنَا)).

وجيل التمكين الذي يأخذ بأسباب النصر ويتحقق على يديه الظَّفَر يتهيأ (واللهِ) منذ زمن، وربما أوشك على النضج، وبدأت طلائعه تنشر بنودها المباركة في الأرض المباركة، وسيكون اليوم المحتوم، عندما يبلغ الكتاب أجله، ولكل أجل كتاب، والله حسبنا ونعم الوكيل.

وكتبه: أبو وائل العُمري

ليلة الأحد ثامن شوال 1446
6/4/2025م

مقالات الكاتب