واشنطن عندما تصنع الأعداء
يرى كثيرون من خبراء السياسة والسيسيولوجيا السياسية ان الولايات المتحدة قد فقدت قدرتها على تصدر المشهد السياسي والاقتصادي والعسكري في العالم او في طريقها لأن تفقده،
ويرى هؤلاء في المتغيرات العاصفة التي شهدها العالم ببروز قوى اقتصادية وسياسية وعسكرية فاعلة على الصعيد الدولي مؤشرا على أن زمن القطب الواحد الذي تفردت فيه الولايات المتحدة واتباعها الاوروبيون مشهد السياسة الدولية قد ولى، وان بروز الصين كقوة اقتصادية وعسكرية وسياسية على المستوى العالمي بجانب استعادة روسيا لعافيتها وذهابها باتجاه استعادة زمن المجد السوفييتي، ومؤشرات اخرى تصب في هذا المنحى - يرى هؤلاء في كل ذلك علامات على انتكاس مؤشر الهيمنة الامريكية على العالم، والذهاب باتجاه عالم متعدد الاقطاب، لن تكون في الولايات المتحدة هي المهيمن الوحيد على صناعة القرار الدولي وتوجيه دفة الأحداث على هذا الكوكب.
الأكثر من ذلك هناك من علماء المستقبليات من يرى ان الولايات المتحدة الأمريكية لن تفقد دورها الريادي في صناعة القرار الدولي فحسب، بل انها تذهب باتجاه العد التنازلي الذي قد تصبح فيه مجرد دولة غنية لا تختلف كثيراً عن اي دولة من صديقاتها او الدول التابعة لها.
في حديث له على قناة سكاي نيوز عربية قال أحد اساتذة العلوم السياسية بجامعة السوربون الفرنسية، إن أمريكا تسعى إلى مواجهة وضعها المتدهور والذاهب باتجاه العد التنازلي من خلال تفجير الحروب هنا وهناك، لتحقق مجموعة من الاغراض أهمها، إلهاء الرأي العام الأمريكي بصناعة اعداء وتتويهه عن الازمات التي يعيشها بفعل تراجع مكانة امريكا وتخبط قراراتها على صعيد السياسة الدولية، وكذا فتح اسواق للسلاح الامريكي لتحقيق عائدات مهولة إذ تعتبر صناعة السلاح احد الاعمدة الرئيسية في الاقتصاد الامريكي، ناهيك عن اكتساب اصدقاء جدد او محاولة تضخيم اصدقاء قدامى لتحويل بلدانهم إلى مرتكزات اساسية للحفاظ على النفوذ الامريكي.
الازمة الاوكرانية-الروسية هي صناعة امريكية بامتياز، وتبدأ بمجيء الممثل الكوميدي الاوكراني فلاديمير زيلينسكي إلى رئاسة البلاد وهو الرئيس ذو العقلية والثقافة الصهيونيتين. والذي يرى كثيرون انه لم يكن ليفز في الانتخابات الاوكرانية لولا وقوف الغرب وراء فوزه وعلى وجه الخصوص المخابرات المركزية الامريكية CIA.
في هذا الإطار تأتي الازمة الأخيرة التي اصطنعتها الولايات المتحدة الامريكية من العدم من خلال زيارة رئيسة مجلس النواب لأمريكي نانسي بيلوسي إلى جزيرة تايوان الصينية وما جلبته من تداعيات على العلاقة بين البلدين.
المتابعون للمواقف السياسية الامريكية يعلمون ان معظم رجال الإعلام والسياسة الأمريكيين ظلوا يكررون ان الصين هي المهدد الاول للمصالح الامريكية، حتى في ذروة الحصار والحرب الامريكية الغربية على روسيا على خلفية الأزمة الروسية الأوكرانية.
الذين عايشوا تطور العلاقات الصينية الامريكية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي يتذكرون أن الرئيس الامريكي نيكسون، عندما زار الصين بهدف تعديل مسار العلاقات بين البلدين إنما كان يسعى لتأجيج الخلافات الصينية السوفييتية التي كانت حينها قد بلغت الذروة، عن طريق استمالة الصين ومنحها المقعد الدائم الخامس في عضوية مجلس الامن الدولي، واجتذابها إلى صف اعداء الاتحاد السوفييتي حينها، ويتذكرون ان احد شروط الصين لتطبيع العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية كان تخلي الاخيرة عن الاعتراف بتايوان كدولة مستقلة، والإقرار بمبدأ الصين الواحدة.
قرابة نصف قرن مضت على هذه الحادثة تغيرت فيها امور جذرية كبري اهمها انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيوتي، وتعملق الصين، ومنافستها للمركز الاول عالميا على الاصعدة الاقتصادية والعسكرية والعلمية والاهم من هذا زوال الخلافات الروسية الصينية،
وإعادة صياغة منظومة العلاقات الدولية ونشوء اقتصاديات ناشئة تساهم في تغيير ميزان القوى الاقتصادية والسياسية الدولية لغير صالح الولايات المتحدة وحلفائها.
يراهن صناع السياسة الامريكية على ضعف ذاكرة الشعوب، فيسعون إلى تزييف الحقائق وإحياء الاجساد الميتة وكل ذلك من اجل تصدير ازماتها الداخلية باتجاه الخارج سعيا للعودة الى زمن القطب الواحد الذي لم يستطع الصمود لمدة عقدين كاملين من الزمن، بعد ان اعتقد الساسة الامريكيون انهم سيبقون على راس هذا القطب إلى الابد
صناعة الاعداء سياسة امريكية تقليدية الهدف منها الهروب من أزمات امريكا الداخلية وتحاشي مرض الشيخوخة الذي يغزو الجسد الامريكي كمسار طبيعي يصيب جميع الكيانات الحية بما فيها الدول والامبراطوريات والحضارات، وأمريكا لن تكون استثناءً في المضي على هذا المسار.