إنَّهُ مُحمَّد سالم باسندُّوة .. شهادةٌ أمامَ اللهِ والتَّاريخ
كعَادتي بيْنَ الحِيْنِ والآخَرِ أسْعَدُ بتَواصُلي الهَاتِفي مَعَ الأبِ الإنسانِ والشَّخصيَّةِ السِّيَاسيَّةِ وَالقَامَةِ الوَطنيِّةِ ، الأستاذِ مُحمَّد سَالم باسُندُّوة ، وَكانَ هَذهِ المَرَّةَ بمُناسبةِ حُلُولِ عامِنا المِيلاديِّ الجَدِيْدِ 2022 ..
وَعَنْ بُعدٍ جَاءني صَوْتُهُ القَريْبُ المُفْعَمُ دَوْمَاً بالحَيَويَّةِ والنَّشَاطِ ، وبِعِبَاراتِ السَّكِيْنَةِ و الاطْمِئنَانِ ، وَالسُّؤالِ عَنْ حَالِ الأهْلِ والأصْدِقَاء ..
وَعُقْبَ انْتِهَاءِ هذِهِ المُكَالمَةِ ، عَادَتْ بِيَ الذَّاكِرةُ إلَى سَنَواتٍ خَالياتٍ، وَتَحْدِيْداً إلَى اواخر الْعَام 1994 ؛ عامِ تعيينِ الأسْتَاذِ باسندُّوة وَزيْراً لِلاعْلامِ عُقْبَ تَوَلِيهِ حَقِيْبْةَ الخَارِجيَّةِ فِي حُكُوَمةِ المَرْحُوْمِ عبدالعزيز عبد الغنيّ .
عِندَ تَعْيينهِ وَزيراً لِلإعْلامِ لمْ تَكُنْ بيْني وَبينَ الأستاذِ باسندُّوة سَابِقَ مَعْرِفةٍ شَخْصيَّةٍ ، لَكنَّني شَخْصيَّاً قدْ عَرفتُ وَسمعتُ وَقرَأتُ كَثِيْراً عنْ أدوارِهِ البُطُوليَّةِ والنِّضاليَّةِ وَالوَطَنيَةِ التي أبْلَى فيْهَا بَلاءً محمُوداً ؛ بوصفهِ واحِدَاً منْ قَادَةِ جَبهةِ التَّحْريرِ المُناوئةِ للاحْتِلالِ البِرِيطَانيِّ لجَنُوبِ اليمن .
كُنَّا نَعْلمُ أنَّهُ الصَّحَفيُّ الكَبيْرُ صاحبُ القلمِ الجريءِ في صحيفتِهِ ( الفكر ) ، وصُحُفٍ أخْرَى عَرَفَتْها عدن في خمسينيَّاتِ القَرنِ المَاضِي وستينيَّاتِهِ .
وهوَ المُناضلُ السِّياسيُّ الجَسُورُ الَّذي تعرَّضَ للسِّجنِ غيرَ مرَّةٍ قبْلَ أنْ يُشَاركَ في المَحَافلِ الدَّوليَّةِ ، ومنْها الأممُ المُتحدَةُ ؛ لشَرحِ قضيَّةِ الجَنُوبِ المُحتَلِّ، وأصْدرَ كتاباً مُهمَّاً بهذا الشَّأن.
الأستاذُ باسندُّوة تقلَّدَ عَدَداً مِنَ المَناصبِ السِّياسيِّةِ والدُّبلُوماسيَّةِ الرَّفيْعةِ، وَالحَقائبِ الحُكُوميَّةِ ، كَانَ آخَرَها ترَؤسُهُ نهايةَ 2011 حُكُومةَ الوِفاقِ الوَطَنيِّ.
عندَ تعيينهِ وزيْراً للإعْلامِ - وَدونَ سَابقِ مَعْرفةٍ - اسْتَدْعاني إلى مَكْتبِهِ ، وَكنتُ حينَها قائماً بأعْمَالِ رَئيسِ المَكتبِ الفَنيِّ بالوزارةِ ، وَمُديراً لتَحْريرِ مَجلَّةِ: ( مُتابعات اعلاميَّة ) التي أسَّستُها عامَ 1991 كأوَّلِ مَجلَّةٍ عِلميَّةٍ يمنية مُتخصِّصةٍ في قَضَايا الاعلامِ ، وأصدرتْها الوزارةُ بالتَّزامُنِ معَ تأسيْسِ أوَّلِ قِسْمٍ للإعْلامِ في اليَمن فِي جَامعةِ صَنعاءَ قَبْلَ أن يَتحوَّلَ القِسمُ إلى كُليَّةٍ للاعْلامِ قَائمةٍ بذاتِها .
وفِي لقَائي الأوَّلِ القَصيرِ معَ الأستاذ ، أخبرَني بأنَّهُ اخْتَارني مُدِيْراً عامَّاً لمكتبِهِ، وَاصدرَ قراراً وزاريَّاً بذلكَ ، وقالَ لي فقط أريدُكَ أنْ تكوْنَ على مُستَوى المسْؤوليَّةِ ، وفي اليومِ ذاتِهِ باشَرتُ مَهامَّ عَملي معَهُ حتَّى قدَّمَ استقالتَهُ منَ الوزارةِ بعْدَ عَامٍ من تعيينه بها ، وهيَ حَالةٌ نادِرَةٌ في اليمنِ أن يقدِّمَ أحدُ مسؤوليها - وفي ظُروفٍ طَبيعيَّةٍ - استقالتَهُ من مَنصبٍ سيَاديٍّ رَفيْعٍ !!
وَرَغمَ كُبْرِ سِنِّهِ ( من مواليدِ 1935 في عدن ) إلَّا أنَّهُ دائماً في الجَانبِ المُشمِسِ منَ الحَياةِ ، فقدْ كانَ يُدهشُني كُثِيراً بقُدرتِهِ وحَيويَّتِهِ الكَبيْرةِ في إدارةِ شُؤونِ وزارةٍ كبيْرةٍ كالاعلامِ ، التي تتبعُها مُؤسَّساتٌ وأجهزةٌ اعلاميَّةٌ كثيْرةٌ ( قنواتٌ تلفزيونيَّةٌ واذاعاتٌ مركزيَّةٌ ومحَليَّةٌ ، وصُحفٌ رسميَّةٌ ... إلخ )، كمَا كانَ مُستوْعِباً الجَميعَ ، حتَّى أولئكَ المُتَباينينَ مَعهُ في الرأي والفكر ، وكانَ يقفُ على مَسافةٍ واحِدةٍ منْ كُلِّ أطيافِ المُجتمعِ السِّياسيَّة.
- وخلالَ تعاملي معَهُ - فإنَّني أشهدُ أمامَ اللهِ و أمامَ التَّاريخِ بنزاهَةِ هذا الرَّجلِ وَتعفُّفِهِ ، ونظافةِ يدِهِ ، إلى دَرجةِ أنَّهُ رفضَ - عندَ تعيينهِ وزيراً للإعلامِ - استلامَ سيَّارةٍ جديدَةٍ كباقي الوزراءِ الذينَ سبقوه ، وقالَ لي سيارتي القدِيمةُ تؤدِّي الغرضَ ، مشددا علي الا نستلم بأسمه اي سيارة وكان له ما أراد ، واستمرَّ على هذهِ الحالِ حتَّى غادرَ الوزارةَ !!
كمَا أنَّهُ وجَّهَني بشَكْلٍ صَارمٍ بعدمِ صرفِ أيِّ مُساعداتٍ ماليَّةٍ وجَّه هوَ بصرفِها من ميزانيَّةِ الوزارةِ ، بل تُصرَفُ من مُخصَّصٍ مَاليٍّ شَخصيٍّ سيحضرُهُ هوَ بشكلٍ خاصٍّ من منزلِهِ ، ويبقى في حَوزتي كعهدةٍ ماليَّةٍ ، على أنْ أشعرَهُ قبلَ نفادِها.
وهذا ماحدثَ طيلةَ عملِهِ في وزارةِ الاعلامِ حتَّى يومِ استقالتِهِ ، بلِ الأغربُ من ذلكَ أنَّهُ لم يكنْ - رُبَّما بحُكمِ الثِّقةِ التي نشأتْ بينَنا - يُراجعُ ما أقدِّمُهُ له من وثائقَ إخلاءٍ للعُهدَةِ ، فقط يطلبُ أنْ أذكِّرَهُ صباحَ اليومِ التَّالي - بمُكالمةٍ هاتفيَّهٍ - بإحضارِ مبلغِ مُساعداتٍ جديدٍ !!
لا أعتقدُ أنَّ شخصاً آخرَ - وهوَ في منصبِهِ الحُكوميِّ اللافتِ - أن قامَ بمثلِ ماقامَ به الأستاذُ الجليلُ مُحمَّد سالم باسندُّوة - باركَ اللهُ في عُمرِهِ وحياته ، و متَّعَهُ بوافرِ الصِّحَّةِ والعافية.
كنتُ أودُّ الخوضَ في كثيرٍ من تفاصيلَ غايةٍ في الجمالِ لمستُها وعايشتُها في هذهِ الشَّخصيَّةِ الوَطنيَّةِ العتيدةِ ، ورَجُلِ الدَّولةِ الاستثناء ، لكنْ حسبُه مايتمتَّعُ بهِ منْ سُمعةٍ وضَّاءةٍ طيِّبةٍ عندَ عامَّةِ النَّاسِ الذي كانَ ومازالَ قريباً وواحداً منهم .
كم سعدتُ كثيراً بالعملِ معَ ( العمِّ مُحمَّد ) كما تعودتُ مُناداتَهُ ، وكمْ أنا فخورٌ بكَ يا عم مُحمَّد .
فليسَ كُلُّ الرَّجالِ مُحمَّدَ باسندُّوة.. فللهِ أنتَ أيُّها الاستثناءُ الجميلُ..!!