حماقات حكام أوروبا

منبر عدن - خاص

بالأمس استقالت رئيسة الوزراء البريطانية "ليز تراس" قبل أن تكمل شهرين في توليها لمنصب رئاسة الوزراء وقد كانت فترة الأسابيع الستة التي قضتها في 10 داونينج ستريت مملوءة بالتوترات والأزمات والاحتجاجات الرافضة للسياسات التي تبنتها تراس، والقائمة على التقشف وخفض الضرائب على الشركات الرأسمالية وتخفيض النفقات على القطاعات الخدمية.

ما شهدته بريطانيا تشهده معظم بلدان أوروبا الغربية التابعة للسياسات الأمريكية المتحكمة في سياسات حلف الناتو وقيادة الاتحاد الأوروبي بعد تورط الدول الأوروبية في حرب (روسيا- أوكرانيا)، ارضاءً لسيد البيت الأبيض الذي لا يطيق وجود دول قوية لا تخضع لنفوذه وتوجهاته السياسية كروسيا والصين على وجه الخصوص.

ظلت الصورة النمطية لدينا نحن البسطاء، وحتى لدى الكثير من الحكام والمثقفين في البلدان النامية أن الحكام الأوروبيين هم أذكى أذكياء العالم وأنهم عباقرة لا يخطئون، لكن الأيام أثبتت أن من بينهم الحمقى والمستهترين والمراهقين السياسيين، وأنهم لا يختلفون عن سائر الحكام إلا في كون المؤسسات الديمقراطية تردعهم عند الخطأ وتحاسبهم عند الخروج عما تقتضيه القوانين واللوائح والنظم المتبعة في بلدانهم.

لقد ارتكب قادة الدول الأوروبية حماقة كبرى عندما انجروا وراء الرئيس الأمريكي جو بايدن في محاربة روسيا وفرض العقوبات عليها وهم يعلمون أن اعتمادهم على روسيا في العشرات من العقود تفوق اعتمادهم على الولايات المتحد بمرات كثيرة في حين تحارب أمريكا روسيا بهم، وهي لا تعتمد على روسيا حتى في ما يساوي وجبة إفطار لفرد واحد من مواطنيها، ولذلك هي تحارب روسيا وهي مطمئنة لعدم تضررها في هذه الحرب بينما يحارب الأوروبية معها وهم تحت رحمة روسيا في نصف احتياجاتهم، فقد ظل الأوروبيون وما يزالون يستوردون مصادر الطاقة - الغاز والنفط وكذا القمح والأرز  وعدد من المعادن المهمة التي تدخل في مختلف الصناعات ومنها الصناعات الدقيقة كصناعة الرقائق والحواسيب والهواتف ومختلف الأجهزة الرقمية، ومع ذلك شاركوا بفرض العقوبات على روسيا متناسين أن روسيا بيدها أن تعاقبهم وتخنقهم دون أن يستطيعوا الفكاك من ردة فعلها هذه.

اليوم يدفع المواطنون الأوروبيون ثمن حماقة حكامهم، وقد بدأت ملامح انتفاضة عارمة تعم معظم الدول الأوروبية على خلفية الغلاء وارتفاع مستوى التضخم في بلدان الاتحاد الأوروبي وبريطانيا حيث شهدت قيمة اليورو والجنيه الاسترليني انخفاضاً لم تشهده منذ عقود.

في بريطانيا ارتفعت الأسعار ما بين 40-60 % عما كانت عليه قبل الأزمة الأوكرانية والمواطن البريطاني يتذمر من تحمله هذه التكلفة لمجرد أن حكومته ورؤسائها المتداولون يجاملون الحاكم الأمريكي على حساب معاناتهم (أي معاناة المواطنين البريطانيين أنفسهم).

*        *       *

وبالعودة إلى استقالة رئيسة الحكومة البريطانية ليز تراس التي قدمتها قبل ان يحفظ بعض المواطنين البريطانيين اسمها جيداً، يرى الكثير من المراقبين أن الازمة في بريطانيا هي ازمة حزب المحافظين الممسك بتلابيب الحكم منذ ٢٠١٠م.

فطوال هذه الفترة تداول على رئاسة الوزراء ورئاسة الحزب أربعة زعماء اولهم كان ديفيد كاميرون الذي ورط نفسه وحزبه وكل بريطانيا في وعد الاستفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الاوروبي وكان وحزبه يتوقعان أن النتائج ستأتي لصالح بقاء بريطانيا في عضوية الاتحاد، وقد سقط حينما صوتت الاغلبية لخروج بريطانيا من الاتحاد، وثانيهم تيرسزا ماي التي كانت تتكلع لتكون مارجريت تاتشر الثانية، لكنها سقطت بسبب فشلها في ملف البريجزيت (خروج بريطانيا من الاتحاد)، ثم بوريس جونسون  الذي كان يتصور أنه سيغدو تشيرشل رقم 2 وعندما أسقطه حزبه جاءت ليس تراس التي لم تصمد اكثر من ستة أسابيع.

رئيس حزب العمال المعارض قال ان ما يدور في بريطانيا هو مهزلة، واضاف ان بريطانيا ليست مسلسلا تلفيزيونيا أبطاله هم قادة حزب المحافظين، داعيا إلى انتخابات مبكرة تنهي هذه المهزلة كما وصفها وتعيد لبريطانيا استقرارها.

واليوم يلوح بوريس جونسون الذي عزله نواب حزبه بالعودة إللى زعامة الحزب ورئاسة الوزراء، فأن تحقق له ذلك فإنه يكشف حالة التخبط التي يعاني منها حزب المحافظين، وإن لم يتحقق له فإن الحزب سيبحث عن قائد مغمور يحتاج الى سنوات كي يثبت قدرته على قيادة البلاد وإخراجها من الورطة التي وضعها فيها قادة حزب المحافظين كلهم بدون استثناء.

ويبدو ان دعوة زعيم حزب العمال البريطاني إلى انتخابات مبكرة ستشكل المخرج لبريطانيا من أزمتها المستفحلة، إذا ما فاز بها حزب العمال المحسوب انه يساري، اما في حالة عودة حزب المحافظين إلى السلطة فإن الازمة ستذهب إلى متاهات اسوأ مما صنعه جونسون وتراس وأسلافهم من المحافظين.

والسؤال فيما لو فاز حزب العمال في الانتخابات المبكرة المفترضة هو، هل سيتخلص هذا الحزب من إرث حماقات أسلافه المحافظين، ويسلك طريقا مختلفا خصوصاً في التعامل مع أزمة أوكرانيا والعلاقة مع روسيا؟ ام انه سيسير على طريق المحافظين ويبقي بريطانيا اسيرة مزاح الرئيس  الأمريكي بايدن ومن سيأتي بعده ؟

تلك هي شفرة المسألة.

مقالات الكاتب