بعيداً عن التفاصيل أين جذر المشكلة؟
بعيداً عن كل ردود الأفعال التي أثارها قرار الرئيس الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي بخصوص إعادة 52 ألفاً من جنود وصف ضباط وضباط القوات المسلحة الجنوبية والأمن الجنوبي ممن أبعدوا من أعمالهم بعد حرب 1994م، أقول بعيداً عن كل هذا وعن الأسئلة التي أثارها الكثير من المعلقين والمتذميرن والساخطين والمؤيدين والمادحين، سأتجنب الكثير من التفاصيل، ولن أتساءل: لماذا أين بقية المبعدين؟
ولا من أين ستدبر الموارد لتعويضهم ما حُرموا منه على مدى ثلاثة عقود؟
ولا ما هي الوحدات التي سيعودون إليها؟
ولا من سيعوض هؤلاء إعمارهم التي دَمَّر منها الإبعاد القسري ثلاثة عقود هدراً وظلماً وعدواناً؟
ولا لماذا تم تجميد تقرير اللجنة المختصة عقداً كاملاً من الزمن بعد ان كانت قد جهزت التقرير في العام ٢٠١٣م؟ كل هذه الأسئلة سأتجنب الخوض فيها وسأكتفي بسؤالٍ واحدٍ فقط وهو: لماذا تم استبعاد هذا العدد، وبقية ضحايا الإبعاد والإقصاء القسريين (وهم بمئات الآلاف من المدنيين والعسكريين) من أعمالهم؟
وسؤال متفرع عن هذا السؤال: هل بهذا الإجراء ستنتهي المشكلة وستعود الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والمعيشية والخدمية للجنوبيين (سمن على عسل)، كما تقول العامة؟
أنا لست من الجاحدين وأعرف أن التعويض لو كان عادلاً وجرى بسرعة وسلاسة، وشمل كل الاستحقاقات بما في ذلك المستحقات المفترضة خلال العقود الثلاثة بما فيها احتساب الترقيات المفترضة من وقت استحقاقها، وقد لا يشمل مستحقات الإعاشة والوقود وما في حكمها، أقول إنه قد يسد بعض حاجات هؤلاء، وإن كان لا يعيد العمر المهدور والشباب المفقود والمهارات الموؤودة، وابتسامات الفرح اليومية التي تحولت عند الكثيرين إلى بؤس وإحباط وسوداوية، وبعضهم تعرض لأمراض نفسية كالاكتئاب والانفصام وبلغ بالبعض حد الانتحار، أقول أنه لا يمكن إنكار بعض الفوائد، لكن كل هذه المعالجات حتى لو شملت كل ما تعرضتُ له من الاستحقاقات، وشملت كل المدنيين والعسكريين والأمنيين، تظل مجرد معالجة لبعض جوانب النتيجة ولم تتعامل مع السبب الذي صنع تلك النتيجة، تماماً كإن تعالج لمريض السرطان، أعراض المرض مثل آلام المفاصل والهزال الجسدي وضعف القوى، دون أن تستأصل الخلايا المصابة باستخدام العلاج والدواء والعمليات المناسبة، للقضاء على الداء بدلاً من معالجة أعراضه.
العلاج الوحيد لكل هذه المعانات التي تعرض لها الجنوبيون بكل تفرعاتها وتشعباتها على مدى ثلاثة عقود لن يتحقق إلا بمعالجة السبب الرئيسي، وهذا السبب يعرفه الجميع ويتمثل في حرب الغزو والعدوان في العام ١٩٩٤م وما تبعه من تدمير لدولة الجنوب ونؤسساتها وقوانينها وتقاليدها الإدارية وتراثها القانوني والقضائي، وهذه الحرب لم تتسبب فقط في استبعاد تلك الآلاف من العسكريين والأمنيين من أعمالهم، بل دمرت الدولة وقضت على كل منجزاتها وأسست ثقافة الفيد ونشرت الفساد وعممت خبرات الرشوة وتجارة الممنوعات وثقافة السلب والنهب، وأنهت النظام المؤسسي وقضت على روح القانون، ودمرت المؤسسة التعليمية والخدمة الطبية والضمان الاجتماعي، وألغت ثقافة الانتماء وزيفت الوعي والتاريخ ومسخت الثقافة وكل أركان الهوية الجنوبية.
ومن اجل الوصول لهذا الحل أقيموا تفاوضاً ثنائياً (جنوبياً-شمالياً) بعيداً عن ثنائية (الشرعية-الانقلاب) وتوافقوا على العودة إلى وضع الدولتين وارسوا أسس ومبادئ عملية الانتقال من اللادولة إلى وضع الدولتين وبهذا تقضون على أصل الداء الذي أنتج كل المآسي التي عانى منها الجنوبيون على مدى ثلاثة عقود من الغزو والاجتياح والاحتلال والاستباحة ولم تجن الأغلبية الشمالية منها سوى الادِّعاء بأنها تدعم تلك السياسات الجائرة بحق الجنوب والجنوبيين.