متى يتعلمون من الدرس الفائت؟؟
غضب مني بعض متابعي صفحتي على خلفية منشور سابق لي بعنوان "الأزمة اليمنية وآفاق الحل المأمول"، والذي نقلت فيه تعليق أحد متابعي الصفحة قوله إن من يعالجون الأزمة اليمنية هم أشبه بالخياط الفاشل الذي يفصل البدلة دون أخذ قياسات الزبون بالاعتبار وحينما يكتشف أنها ليست صالحة يرميها ويستبدلها بأخرى وبدون أخذ القياسات، والدليل إن عشرات المبادرات ومسودات التسويات التي جرت منذ 2015م لم تحقق أية نتيجة تُذكَر، ولم تعالج الأزمة بقدر ما زادتها تعقيداً واستفحالاً، فكل واحدةٍ تناقض الأخرى وتلغيها، وفي الأخير تتواصل الأزمة وتتضاعف معاناة الشعبين في الشمال والجنوب على السواء.
هذه الأيام تتصاعد موجة التهليل والتكبير والاستبشار والابتهاج بمناسبة الحديث عن مبادرة المبعوث الأممي بما أسماه "مسودة اتفاق لإحلال السلام في اليمن"، والتي قال إنها تمر بمرحلتين أو ثلاث مراحل، عُرِفت منها حتى اللحظة المرحلة الأولى التي تتحدث عن وقف شامل لإطلاق النار وتسليم المرتبات وإعادة تصدير النفط وفتح الطرقات لتعز ومناطق أخرى، وما عدا ذلك كله كلام يقال منذ أيام جمال بن عُمر ولم يتحقق منه شيءٌ يذكر سوى اتساع هيمنة الجماعة الحوثية وابتلاعها لكل الجمهورية العربية اليمنية وأطماعها في إعادة إخضاع الجنوب لسيطرتها، بعد أن خرجت منه مذمومةً مدحورة في العام 2015م.
إن السؤال الذي يفقأ العين ويستلزم الإجابة قبل الحديث عن وقف الحرب وفتح الطرقات وإعادة تصدير النفط هو: من الذي أشعل الحرب؟ ومن ثم من عطل الموارد الاقتصادية بما فيها تصدير النفط؟ ومن الذي أوقف مرتبات الموظفين؟ ومن الذي أغلق الطرقات سواءٌ في تعزَّ أو غير تعزّ؟
ما كانت حاجتنا لحربٍ أكلت الأخضر واليابس على مدى تسع سنوات إذا كانت الحصيلة هي فتح طريق تعز وتشغيل مطار صنعاء وميناء الحديدية وتسليم المرتبات لمليشيات الجماعة الحوثية التي تسيطر على كل موارد الجمهورية العربية اليمنية (السابقة)؟ ألم تكن هذه الأمور طبيعية وسائرة على ما يرام قبل أن تنقلب الجماعة الحوثية وحليفها الرئيس صالح على كل منظومة الحكم آنذاك؟
كل هذه الأمور تجري تحت إهمال متعمد ومقصود وتجاهل مشهود للقضية المركزية بالنسبة للجنوبيين ونعني بها ما عُرف في الوثائق الرسمية بــ"قضية شعب الجنوب".
أنا لا أراهن على أي كلام أو تصريح يصدر عن المبعوثين الأمميين لأن هؤلاء لم تكن مهمتهم قط صناعة سلام، وإنما كانت تقتصر على إطالة أمد الأزمات لأسباب تنتجها مطابخ صُنَّاع الأزمات الدوليين في كل مكان يحضر فيه هؤلاء المبعوثون وكل قضية يتدخلون فيها، ومن يقول بغير ذلك عليه أن يدلنا على مرة واحدة أفلح فيها هؤلاء المبعوثون في إحلال السلام في أي مكان في العالم.
من هذا المنطلق أدعو كل القادة السياسيين والإعلاميين الجنوبيين إلى عدم الابتهاج بالكلمتين اللتين قالهما جرودن بيرج بأنه "لا يمكن وجود سلام مستدام دون أن يكون للجنوب دورٌ في صنع هذا السلام" فهذا الكلام يمكن أن يقال لتلاميذ في الصفوف الأولى من الابتدائية وقد يرفضونه بوعي وفطنة، لأنه لا يقول إلا كلاماً زئبقيا لا معنى له ولا وظيفة سوى رفع العتب واستغفال البسطاء من خلال التخدير والتسويف.
أقول لا لوم على المبعوث الأممي ومنظمته الدولية، لكن اللوم على الأشقاء العرب الذين ما يزالون يتناولون الأزمة في البلاد وكأننا نعيش أيام ما قبل وثيقة العهد والاتفاق الموقعة في فبراير عام 1994م، أما القادة الجنوبيين فلدي يقين أنهم يدركون هذه اللعبة القذرة ويعدون العدة لمواجهتها، وننتظر ردهم الحازم تجاهها.
أيها الأشقاء!!
إننا نقولها لكم بصراحة ووضوح، أنتم تضعون الهرم مقلوباً ثم تبحثون للمشكلة عن حل في رأس الهرم القريب من متناول أيديكم، بينما الأمر واضح كالشمس؛ المشكلة في قاعدة الهرم الذي تستصعبون الوصول إليه، وهي هنا تكمن في غزو الجنوب مرتين وتدمير كيانه الوطني وإعادة أهله مئات السنين إلى الوراء وتحطيم كل ممكنات تطوره واستقراره، والحل ببساطة في متناول الجميع ويتمثل في عودة الشعبين الشقيقين إلى وضع الدولتين الجارتين المتعايشتين، كما كانا قبل 22 مايو 1990م وبناء نظام للتعايش والتكامل والشراكات المستقبلية القابلة للحياة بين الدولتين بما يخدم مصالح أبناء الشعبين الشقيقين بعيداً عن ثنائيات: الفرع والأصل؛ والأكبر والأصغر؛ والأقوى والأضعف؛ والتابع والمتبوع، أما ما عدا ذلك فلن يكون إلا حراثة في بحر لا نتيجةً تُرتَقَب لها ولا ثمرةً تُرتَجى منها.
هل الحرب بين الشعبين في الجنوب والشمال قدرٌ منزلٌ لا مفر منه ولا بديل له؟؟
ذلك هو السؤال الذي ينبغي على القوى الحية في الشعبين الرد عليه، أمَّا تُجَّار الحروب وصُنَّاع الأزمات فلا رجاء أن يرعووا ويتعلموا من دروس الماضي، فإذا ما أصروا على استبقاء الجنوب رهن نتائج حربي 1994م و2015م فلن يكون المستقبل القريب والبعيد إلَّا حرباً دائمةً لا أحدَ يضمن فيها أن يظل المنتصر منتصراً والمهزوم مهزوماً لكنها ستكلف الشعبين الكثير قبل أن يستفيقا على حُطام بلاد تحتاج إلى قرون حتى تصل إلى زمن الأنسنة، وشعب الجنوب لن يقبل بالإملاءات وسياسات الاستغفال، وسيعمل على استعادة دولته بالتوافق أو بدونه، وسيذود عن أرضه وخيراته ووطنه كما عود الغزاة دوماً، ومن لم يتعلم من الدرس الفائت سيتعلمه مجدداً ولو بعد فوات الأوان.