ستة في سبعة (قصة قصيرة)

منبر عدن - خاص

(قصة تاجر الحمير الذي فتح جامعة)
      "سوق الخمسة نجوم" هكذا صار يطلق على سوق القات الواقع عند تقاطع شارع العدل مع شارع الزراعة، ربما لجودة نوع القات الذي يعرض فيه وربما لارتفاع أسعار هذا القات، حيث يصل سعر الحزمة الواحدة الى آلاف الريالات. 
   هكذا وجد الدكتور فائز الخيبة نفسه صدفة وسط هذا السوق في لحظة الذروة من النهار، أي بين الثانية والثالثة بعد الظهر، ليس لغرض شراء القات، فهو قد خاصم القات منذ أكثر من عقدين من الزمن، ولكنه كان يبحث عن تلفون عمومي لإجراء مكالمة عاجلة.
   كان صراخ الباعة والزبائن وتوسلات المتسولين ونفير أبواق السيارات المتزاحمة يخلق ضجيجاً حادًّا يخترق طبلة الأذن، حتى وأن كانت بمتانة جلد الفيل.
  كانت المفاجأة عندما استوقفه رجل فارع القامة، ضخم الجثة، تبدو على ملامحه وهندامه علامات البذخ والثراء، رجل في حوالي الثلاثين من العمر كان نازلاً لتوه من  سيارة "لاند كروزر" آخر مود يل استطاع بصعوبة أن يدسها وسط زحمة السيارات الواقفة والمارة وتهافت الباعة والزبائن والمتسولين.
- ألستَ الأستاذ فائز الخيبة؟
سأله الرجل ومد يده للمصافحة مبتسماً بودٍّ لا يخلو من الاستعراض والتباهي، وكانت يده الأخرى مشغولة بالتلفون النقال، وعندما أجاب الدكتور بنعم شرع الآخر يسأله عن أحواله وصحته وأخباره ويمطره بسيل من عبارات المجاملة  والتقدير المشوب بشيء من التصنُّع والتعالي.
  وكان موقف د. فائز في غاية الحرج فهو لم يعرف الرجل ، ولكن كعادته راح يرد له عبارات الشكر والمجاملة والسؤال عن الصحة وبعض العبارات والأسئلة المموهة التي يحاول من خلالها معرفة شيء عن هوية الرجل .. 
   ويبدو أن الرجل قد أحس بموقف الدكتور وهنا بادره بالسؤال :
- من المؤكد انك لم تعرفني أليس كذلك يا أستاذ فائز ؟؟
ثم مستدركاً:
-  على فكرة سمعت أنك أصبحت دكتوراً ! ، ألف مبروك.
وكان رد الدكتور فائز عليه بالإيجاب دون أي تعليق . ولكن الآخر ألح عليه:
-  سمعت أنك حصلت على مرتبة الشرف وفزت بميدالية التفوق العلمي.
ليرد عليه الدكتور بتواضعه المعهود:
- يعني . . . حاجة من هذا النوع.
- على كلٍّ ألف ألف مبروك.
وبعد قليل من الصمت:
-  . . لكن هل صحيح لم تعرفنا يا دكتور أم أنا غلطان؟ 
 وكان قد أخذه من يده بعد أن أغلق باب السيارة بإحكام وسارا باتجاه أحد الباعة ، أما الدكتور فقد ازداد موقفه حرجاً ولكنه أجاب بتصنع :
- الحقيقة. . الصورة معروفة ولكن أنا أصبحت في الآونة الأخيرة أنسى الأسماء .
- أهآآآآآه! ..
قال الرجل ومط صوته مستنكراً.
-  تنسى الأسماء وأنت الذي كنت تحفظ أسماء ألف ومائتي طالب وطالبة!
   وهنا اتضح للدكتور الخيبة أن الرجل ليس إلاّ واحداً من تلامذته القدامى عندما كان مديراً لإحدى المدارس الثانوية ،ولكن من أين له أن يتذكر بعد هذه السنين الطويلة المليئة بالأحداث العاصفة والتحولات الكبيرة؟ . . ولكي يخرج من مأزقه هذا فقد حاول مواصلة استدراج الرجل في أسئلة ومجاملات عسى أن يعرف شيئا عنه ولكن دون فائدة.
- هل تذكر يا دكتور عندما كان مدرس الرياضيات يهزئني لأنني كنت أغلط في جدول الضرب ..
ويواصل بعد توقف قصير:
- مرة سألني الأستاذ ستة في سبعة كم تساوي؟ وقلت له ثلاثة عشر، وضحك الصف ضحكةً لن أنساها ما حييت، وقد صار جوابي هذا مثلاً فيما بعد.
وحاول الدكتور فائز أن يتذكر شيئا من هذه الأحداث ولكن الذاكرة لم تسعفه ..وللمجاملة علق:
- على كل حال لقد صار هذا جزء من التاريخ ….المهم الآن الحمد لله  على اللقاء!
ولكن الرجل  أضاف :
- وهل تتذكر مدرسة الجغرافيا الست صفاء البيومي عندما اشتكتني لديك لأنني قلت لها أن ليبيا هي عاصمة الخرطوم!
وحاول الدكتور أن يقول شيئا ولكن هذا قاطعه:
- وهل تذكر مشكلتي مع الأستاذ إسماعيل الشرقاوي، مدرس التاريخ، عندما غضب مني بعد أن سألني متى قامت ثورة 26 سبتمبر فقلت له في30 نوفمبر.
-  .. يا راجل  هذه أمور حصلت وانتهت… المهم نرجو أن تكونوا سامحتمونا لأي قسوة في معاملتنا لكم إذا كانت قد حصلت مننا دون قصد!
- أنا متأكد يا دكتور من أنك لم تعرفني !
ويحاول الدكتور أن يتحاشى الإحراج والتظاهر بأنه يعرف الرجل ولكن يبدو أن الأخير قد استطاب التلاعب بذهن أستاذه فراح يذكره:
- هل تذكر يا أستاذ عند ما طلبت ولي أمري لأني كنت أهرب من الحصص وأذهب لألعب الورق في مقهاية  (عثمان الأعور)… عندما قال لك أبي أن من حقك حتى لو ضربتني بالحذاء وأنت كنت تقول " أستغفر الله العظيم "؟
- في هذه الأثناء رن التلفون المحمول الذي في يد الرجل ليرد عليه :
- ألو مرحبا ... أيوه معك منصر البرميل ... أهلاً .. أهلاً . . طيب ، طيب اتصل بي في المساء سأكون قد حسمت الموضوع.
أما الأستاذ فايز فقد سرح بذهنه عشرين سنة إلى الوراء ليتذكر ذلك التلميذ البليد، الضعيف في دراسته، ذا الهيئة الرثة والملابس القذرة، والمتسبب في العديد من المتاعب للمدرسين والإدارة ولوالديه .  . . تناول الرجل حزمةً طويلةً من القات وسأل البائع عن الثمن ودونما مفاصلة رمى للبائع ثمان أوراق من فئة ألف ريال .
- هل تخزَن يا دكتور ؟؟
تساءل الرجل .
- لا ! والله أنا لا أتعاطى القات منذ البداية.
وراح يفلسف أسباب امتناعه عن تناول القات معدِّداً أضراره الصحية والأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية.
- بالضبط . . . 
قال الرجل الضخم.
- نفس الكلام الذي كنت تقوله لنا في الطابور الصباحي، كل الناس تغيرت إلا أنت !
ثم يغير مجرى الحديث
- .. والآن هل عرفتنا يا دكتور؟
وتظاهر الدكتور بأنه لم يفاجأ بعد إعاد ترتيب ذكرياته وأفكاره:
- طبعاً …طبعاً … فقد توقعت أن تكون أنت .
ثم مستدركاً:
-  وماذا عن والدك كيف أخباره، هل ما يزال يتاجر بالحيوانات؟ 
- والله الوالد بخير ويسلِّم عليك، طبعاً هو توقف عن تجارة الحمير وانتقل الى العاصمة ، وعندة سلسلة سوبرماركتات، وإلى جانب التجارة فتح جامعة.
-  هل قلت فتح جامعة؟!
- تساءل الدكتور باندهاش.
- أيوه …" جامعة البرميل للعلوم المعاصرة "
- ولكن والدك ليس لديه أي مؤهل علمي وحتى خبرته مقتصرة على تجارة الحمير فقط! 
عبر الدكتور مستغرباً.
- أي علم يا دكتور ؟  وما دخل العلم بالبزنس؟ العلم كان زمان، الآن نحن في عصر اقتصاد السوق … بزنس إز بزنس يا دكتور!.
وأُصيب الدكتور بما يشبه الصدمة  ولكنه أدرك أن لاجدوى من الاستمرار في النقاش الذي يدور وفق منطقين مختلفين جذرياً ، فعاد يسأل البرميل الصغير عن أخباره هو حيث أخبره بأنه يعمل في التجارة بين أوتاوا ونيويورك .
- ولماذا لا تشتغل مع أبيك في التجارة هنا ؟
سأله الدكتور فأجاب البرميل :
- بصراحة يا أستاذ هناك الربح أكثر  والحياة أرقى  أما هنا فمن الصعب على المرء أن يعيش بشكل طبيعي. . . ولكنك لم تقل ما أخبارك  وأين استقر بك الزمان ؟ 
 وكاد الدكتور أن يقول له بأنه بلا عمل ولكنه تراجع حتى لا يساء فهمه فقال أنه في شغله السابق دون أن يحدد أين ولا ما هو الشغل السابق بالضبط.
كان البرميل  يحدث الأستاذ ويرد عل مكالمة هاتفية عبر التلفون المحمول ، وبعد أن تعرف على هوية المتصل يقول متسائلا:
-  كم قلت؟… اثنين مليون دولار ؟… اسمع ! … إذا حصلتم فوقها مائة أو مأتين ألف … بيعوا … ما لم ردوا عليَّ المساء … بآي! 
ويغلق الجهاز، . . .وعندما يصل الى قرب السيارة يفتح الباب ليتناول بطاقة أعمال مكتوبٌ عليها ثلاثة أرقام  طويلة يقدمها للدكتور الخيبة:
- اسمع يا دكتور!! هذه أرقام تلفوني، الأول في أوتاوا، والثاني في نيويورك ، والثالث السيار فيه خدمة التجوال الدولي .. بإمكانك أن تتصل بي في أي وقت أنا تحت الخدمة!  
وعبر الدكتور الخيبة عن شكره للبرميل ولكن الرجل استدرك :                                                                              
- أو يمكن الاتصال بالوالد على "جامعة البرميل للعلوم المعاصرة " أو مؤسسة البرميل للتجارة ".. بآي بآي يا دكتور !!
ويصعد السيارة التي تغيب عن الأنظار في ثواني … أما الدكتور فائز الخيبة فقد تذكر أنه كان ينوي إجراء مكالمة  هاتفية وعندما وصل الى كابينة التلفون وقبل إجراء الاتصال فتش جيوبه فلم يجد سوى عشرة ريالات وهي غير كافية للاتصال ،وعندما ترجى عامل الاتصالات أن يأخذ منه رهناً مقابل تأجيل دفع أجرة المكالمةحتى يتدبر المبلغ الذي لن يتجاوز عشرات الريالات ابى الأخير، فعاد الدكتور أدراجه دون إجراء المكالمة الهاتفية.
____________
* كُتِبت القصة في العام 1997م، ونُشِرَت ضمن مجموعة "أهل الحسب والنسب" الصادرة عن وزراة الثقافة بصنعاء، العام 2004م

مقالات الكاتب