البَــلَـد ..ولعنة من يبيعها
كتب: د علي صالح الخلاقي *
- البَلَد: يُقصد بها في اللهجة اليافعية وفي غيرها من اللهجات الأراضي الزراعية بشكل عام, وكأن من لا (بَلَد) له يملكها ويزرعها ويأكل من خيراتها لا بلاد له. إنها اسم جامع لمفردة الوطن (البَلَد), ولا غرابة في ذلك, فقد جُبل اليافعيون على حب الأرض وعدم التفريط بها, والعمل بدأب في حرثها وزراعتها, وظلت إلى وقت قريب المسرح الرئيسي لعملهم ونشاطهم, وفيها ينتشرون زرافات ووحداناً حسب طبيعة العمل أو الموسم الزراعي, يداعبون تربتها بأيديهم وأقدامهم, ويغرسون فيها كل آمالهم وفيها يبحثون عن ثروتهم وكنوزهم المتمثلة في غلال الحبوب المختلفة التي تتصدرها حبوب الذرة, كغلة رئيسية وهامة منذ أزمنة غابرة.
وظلت (البَلَد) ثروة اليافعيين التي يتباهون بها, وترابها المحدود أغلى شيء بالنسبة لهم, ويعيبون الرهن أو البيع, وقد يرهن الشخص الأرض لظروف معينة أو يهملها, لكن من العيب أن يبيعها, وقد لا يعيبون من يرهن أرضه عند الضرورة, لأنه قادر على استعادتها بعد حين. لكنهم لا يغفرون مطلقاً لمن يبيع أرضه مهما كانت الظروف ويصبون عليه جام غضبهم ويطلقون عليه اسم (البَيَّاع) وتبعاً لذلك تنحط مكانته في نظرهم بل وتلاحقه اللعنات ويحسب في عداد الأموات, كما في قول حكيمهم الزراعي الحميد بن منصور:
لُعِنْت وَا بَايِعْ الطِّيْن
لا ترهنه لا تبيعه
الرَّهن مثل العليله
والبيع مثل الذي مات
ومن أجل حفنة أرض أو شبر منها أو مجرى مياه أو رعى كانت تنشب الفتن والحروب القبلية.
ومن هنا تعمق حب الأرض (البَلَد) والذود عنها لضرورة البقاء لأنها كانت المصدر الوحيد الذي يمدهم بمقومات الحياة من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وتضمن حريتهم وتحقق لهم الأمن والأمان, وتحول حب الأرض هذا إلى شعور عميق بالكراهية ضد عدوها, بل إن انتفاضة السلطان الثائر محمد بن عيدروس العفيفي ضد الانجليز قد كانت بسبب الأرض ومنتوجها.
وإلى وقت قريب كان من يملك الأرض الزراعية الكثيرة (البَلد)هو الأغنى في القبيلة, ويقال له صاحب (تَرْكِه) أي ممتلكات تتوارثها الأجيال سلف عن خلف, وكان يُنظر إلى أولئك الملاك كما ننظر اليوم إلى أصحاب الثروات الطائلة ورؤوس الأموال الكبيرة من التجار ورجال الأعمال.
ولهذا يقال في أمثالنا على لسان الفتاة:"زَوّجني بَلَدْ ولا تزّوجني ولَد", أي زوجني من يملك أرضاً. وقولهم:"اِعْتَنِهْ بِذَرِيْ بَلَدُكْ، وخَال ولدُكْ". أي أحْسِن اختيار حبوب البذار وكذا الزوجة من الأصل الطيب. ويزخر المأثور الشعبي بالكثير عن حب الأرض, ومما جاء على لسان الحكيم الحميد بن منصور, قوله:"ما أحلى البلد يا محمد, ما أحلى البلد بالشواجب, مثل النساء بالحواجب".يشبّه الحميد (شواجب) الأرض الزراعية بحواجب المرأة التي كانت وما تزال من مميزات جمالها الفاتن, و(الشواجب) ومفردها شَاجِبِه هي أتلام تختتم بها حراثة الأرض الزراعية من طرفيها عرضياً.
--------------------------------------------
* من كتابي (معجم لهجة سرو حِمْيَر- يافع وشذرات من تراثها)و(الحكيم الفلاح الحميد بن منصور - شخصيته وأقواله)