خواطر زائر للديار اللحجية

منبر عدن - خاص

مخلاف لَحْج (وادي تُبَن وما حوله) من المخاليف القديمة المتحضّرة في جنوب الجزيرة العربية، عاش فيها الإنسان منذ آلاف السنين، ونشأت بها مدن وقرىً، بعضها سادت ثم بادت، وتقلبت عليها الأحوال وعوادي الزمان، وضاع كثير من مجدها الغابر في غياهب الإهمال والنسيان.

وكان من محاسن التدبير أن قام أساتذة قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة عدن صباح يومنا هذا الأحد (7 رجب 1444/ 29 يناير 2023م) بزيارة إلى بعض معالم لحج التاريخية، فانطلق الرَّكب من عدن في عدة سيارات عند الساعة الثامنة صباحًا، يصحبنا جوٌّ شتوي غائم، ونسيم عليل يصافح الوجوه، طريقنا موطن الزين، وقرة العين، ومقصدنا أرض الفُلِّ والكاذي والرَّوْح والريحان والعُوْد والشُّبّابة.

وما إن وصلنا إلى (صَبِر) في ضواحي لحج، حتى شَنْشَنتِ السماء ورَشّنا المطر، وهناك نزلنا في كلية التربية، واستقبلنا عميدها الدكتور أحمد يماني وجماعة من أساتذة الكلية وموظفيها رجالًا ونساء بحفاوة وكرم، وما إن أمسكت السماء شآبيب الوبل، ونفضتْ غصون الأشجار رَشَحات الطَّل، حتى انطلقنا والنفوس جَذْلى، والقلوب مبتهجة في هذه الطبيعة الخلّابة.

وشقّت سياراتنا الشارع العام في مدينة الحَوْطة الجُفارية، وهو كغيره من شوارع هذه المدينة المتواضعة ضيّق مزدحم، ومالت بنا السيارات ذات اليمين (وكنتُ في سيارة الدكتور محمود السالمي)، حتى لاحت لنا بوابة قديمة يعلوها عَقْد حَجَري، تسندها بنايتان عتيقتان من جانبيها، وعندها تكدس الناس بأعداد غفيرة، وعشرات النسوة واقفات وجالسات تحتها حتى سددنَ الطريق، فقيل لنا: هذه بوابة قصر السلطان العبدلي، وهؤلاء الناس هم من المساكين الذين يتقاضون إعانة شهرية لا تسمن ولا تغني من جوع من مكتب الرعاية الاجتماعية الذي مقرّه بجوار البوابة.

وبصعوبة اجتزنا البوابة بين هذه الجموع، ودخلنا ساحة تتوسطها نافورة قديمة جافّة وأحواض عفا عليها الزمن، شاخصة تحكي للعابرين قصة من قصص الغابرين، ومجدًا من أمجاد الأمس الذاهب. وعلى اليسار يشمخ قصر حَجَري عالٍ واسع، متعدد الشُّرفات، له واجهة جميلة، تزينه الأعمدة الرخامية والمشربيات والعقود والنوافذ الملونة، مبني على الطراز الهندي، وهو شبيه بقصر الشُّكر المعروف بقصر العبدلي في مدينة عدن، والقصران بنيا في زمن متقارب وصاحبهما واحد. وإلى جانب هذا القصر من الشرق قصر حَجَري آخر أصغر منه، بنيا في عهد السلطنة العبدلية، في ثلاثينيات القرن العشرين الميلادي. والمؤلم أن هذين المَعْلَمين الأثريين في غاية الإهمال، فأما القصر الكبير الذي هو من أهم معالم لَحْج بل والبلاد عامة فهو مهمل مهجور في الغالب، إلا جانبه الشرقي ففيه بعض الساكنين، ولا أدري أَهُم أُسَر أم هي مكاتب؟! وإذا نظرتَ من بوابته إلى الداخل سترى أكوامًا من القمامة والقاذورات، تسرح في ردهته الأغنام وتمرح، ولا تشم منها إلا الروائح الكريهة، ولا تسمع إلا الخواء والصمت... صمت الموتى، وقد ظهر البِلى في جدران القصر، ولن تراه بعد سنوات قليلة إن بقي حاله هكذا إلا أثرًا بعد عين، وخبرًا بعد عَيَان.

وأما القصر الآخر فلا يقل عن الأول خرابًا وإهمالًا، ومع ذلك فقد سكنت في بعض حجراته الأرضية أسرتان، وبنوا في باحته أحواشًا، وصار سكنًا لهم، ولن يصمد طويلًا وهو يوشك أن يتداعى، طالما الإهمال سيد الموقف، ولا حسيب ولا رقيب على معالم لحج التاريخية وآثارها الشاهدة على مجد تليد مضى.

ثم خرجنا عبر شوارع ضيقة إلى سوق الحوطة، وهي سوق شعبية في الشارع العام، مليئة بالمتاجر الصغيرة والباعة الذين يفترشون الشارع، ويبيعون سِلعًا مما يناسب الطبقة الفقيرة في الغالب، ومظاهر الفقر ظاهرة على وجوه الأهالي، لكنه فقر مع كرامة، ولأواء مع عزة وشموخ، فلا تكاد تسمع شاكيًا ولا سائلًا إلا ممن جرت بهم العادة في الأسواق من المتسولين، وهم قلة، وأكثرهم من المهمشين. ومن هذا السوق اشترى بعضنا خضروات من خيرات وادي تُبَن المعطاء كالقَرْع والبُطَيْطا (البطاطس الحلوة) وبعض البقوليات وغيرها، وأسعار الخضروات المحلية في لحج أرخص منها في عدن، تناسب مستوى معيشة الأهالي.

وفي السوق وقفنا طويلًا تحت جدار بيت الأمير الأديب والمؤرخ والملحّن أحمد فضل العبدلي (القُمندان)، رحمه الله، الذي توفي سنة 1362 (1943م)، وليتنا لم نقف! فالبيت متصدع وآيل للسقوط في أية لحظة، ويمكن أن يسبب كارثة للمارّة، ولم يبق فيه ما يوحي بماضيه سوى صورة القمندان المعلقة في جداره الخارجي.

وبعد هُنيهة من الوقت اتجهنا شمالًا، في أزقة ضيقة، وخرجنا إلى مزارع واسعة، وسلكت بنا السيارات طريقًا تتناثر حوله الأسوام وأشجار المانجو الباسقة الشديدة الخضرة، وقيل لنا ونحن خارجون من المدينة إن قرية الحوطة السُّفيانية تقع بالقرب من الطريق التي كنا فيها، وهي قرية قديمة، كانت معظّمة عند الناس، لأنه دُفن فيها الشيخ سفيان بن عبدالله الأبيني رحمه الله، الذي عاش في القرن السابع الهجري، وهو من شيوخ الطريقة القادرية الصوفية وناشريها في اليمن، وله ذرية كثيرة في الضالع ويافع وبلاد العَوْد في إب، وكان بعض ذريته وزراء وقادة عسكريين في زمن الدولة الطاهرية في القرن التاسع الهجري. أما الحوطة الأخرى (عاصمة لحج الآن) فهي منسوبة للشيخ مزاحم بن أحمد باجابر رحمه الله، وهو الملقب (بَلْجُفَار) و(مَوْلى بُرُوْم)، الذي عاش في القرن الثامن الهجري، وسميت الحوطة الجُفَارية نسبة إليه، وهذا الشيخ قَدِم من حضرموت إلى أحور، ومن أحور إلى لحج، وفيها توفي، وكان قبره مزارًا معظَّمًا عند الصوفية. وقد قيل لنا إن الأرض الزراعية المجاورة للحوطتين، وتقع شمال مدينة الحوطة، أغلبها أوقاف إسلامية.

وبعد مسافة ليست بالبعيدة بين الحقول شمال مدينة الحوطة نزلنا من السيارات، ولاحت لنا في الشرق قرية صغيرة قريبة، فاتجهنا إليه راجلين، وأخبرنا مرشد الرحلة أنها قرية (الرَّعارِع)، وفي موقعها كانت مدينة الرعارع التاريخية المندثرة. ولطالما قرأتُ عن الرعارع التي كانت حاضرة لحج وقصبتها قرونًا طويلة، وكانت مدينة لحج الأولى مثلما أن خنفر مدينة أبين الأولى، وفيها دارت أحداث، ومنها خرج علماء وفضلاء كانوا غرر جبين الدهر وإنسان عين الزمن، فأصبحت خرابًا ونسيًا منسيًّا:
أضحتْ خلاءً وأضحى أهلها ارتحلوا  
أخنى عليها الذي أخنى على لُبَدِ
وذلك أن بعض قبائل البدو القادمة من الشرق اجتاحوا لحجًا في سنة 923هـ (1517/1518م)، وخربوا مدينة الرعارع وحوطة سفيان وبنا أبّة، ونهبوا الأموال، وفعلوا أفعالًا شنيعة، (حسب رواية المؤرخ بامخرمة المعاصر للحدث في قلادة النحر، ج6، ص586)، وكانت بداية النهاية لهذه المدينة التاريخية، التي انكمشت وهجرها سكانها وتحولت إلى قرية صغيرة.

لم نرَ في الرعارع سوى قرية صغيرة، بيوتها شعبية ضئيلة مبنية من الطوب الأسمنتي، وأخرى من اللَّبِن، وثالثة من القَصَب، وشدة الفقر ظاهرة على البيوت ووجوه الأهالي، لكنهم أعزّة كرام، رأونا فخرجوا لاستقبالنا صغارًا وكبارًا، رغم أننا علمنا بعد ذلك وجود موت في القرية، وسألونا عمن نكون؟ فأخبرناهم أننا باحثون في التاريخ، وأن مدينة تاريخية كانت قبل خمسة قرون في مكان قريتهم، وأخبرونا أن باحثين زاروا القرية من قبل، وأرونا في شرق القرية كثيبًا من التراب مليئًا بالقطع الفخّارية التي تظهر من التراب، ولاحظتُ أن آلاف القطع الفخارية تتناثر في التراب حول المكان، وأغلب الظن أن أساسات المدينة ما زالت باقية ومطمورة تحت تربة المزارع الواقعة حول القرية، وتحت البيوت القائمة الآن، ومن الطريف أن امرأة نادتني في الطريق وسط القرية، وكانت منتقبة، وسألتني عن مقصدنا من الزيارة، فأخبرتها، فقالت كلامًا أدهشني: ما دامت هنا آثار، فلماذا سمحوا للناس يبنون فوقها؟ المعروف أن الآثار تحميها الدولة، فقلت لها: الدولة لا تهتم بالأحياء، فهل تريدين منها أن تهتم بالموتى وآثارهم؟! وودعنا الناس وخرجنا بعد أن التقطنا الصور.

عدنا إلى السيارات، وقَفَلنا راجعين، ومررنا بالحوطة مسرعين، ومنها إلى الخط العام، وانتهت رحلتنا مع أذان صلاة الظهر، وفي النية أن أعاود الكرّة إلى لحج إذا تيسرت الأمور إن شاء الله، فما زالت لحج كتابًا مكنونًا وكنزًا مدفونًا وتاريخًا ضائعًا وواقعًا أليمًا، تحتاج إلى رجال مخلصين يحملون همّها ويسعون في مصالح أهلها، ودراسة تاريخها وأدبها.

وختامًا أسرد أسماء الأساتذة الكرام المشاركين في الرحلة، وهم: أ.د. محمد رجب جرادة، رئيس قسم التاريخ، أ.د. محمد بن هاوي باوزير، أ.د. محمود علي محسن السالمي، أ.د. عبدالفتاح الشعيبي، أ.د. عمر علي بن علي، د. حنان المرقشي، د. عبدالعليم غالب، د. عهد الحكيمي، د. أديب لصور، د. نسرين البغدادي، وكاتب هذه السطور، واشترك معنا من لحج الأساتذة د. فؤاد الماطري الذي كان مرشدنا ودليلنا، ود. وحيد الشعيبي.
___________________________
وكتبه: نادر سعد بن حلبوب العُمَري
أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد – كلية الآداب – جامعة عدن