بداياتي في درب الإعلام قبل نصف قرن .. وذكريات أول لقاء صحفي مع الأمين العام للتنظيم السياسي الجبهة القومية 1974م
الزمان: 25 مايو 1974م
المناسبة: زيارة الأمين العام للتنظيم السياسي للجبهة القومية، عبدالفتاح إسماعيل، إلى مديرية يافع، وكانت تسمى حينها المديرية الغربية من المحافظة الثالثة (أبين حالياً).
كنت آنذاك طالباً في إعدادية الشهيد عبدالرحمن قحطان- لبعوس، يافع، مُشبعاً بالحماسة، متقداً بالنشاط، ومن أوائل الطلاب في تحصيلي الدراسي، وكانت هوايتي المفضلة منذ دراستي الابتدائية القراءة والكتابة والرسم، وكنت أحرر الصحف الحائطية وأخطها بيدي وأزينها برسوماتي، وحين تلقى استحسان زملائي كنت أشعر بسعادة غامرة تدفعني لمزيد من الإبداع والعطاء.
كما كنت أيضاً خطيباً مفوهاً، لذلك كانت تُسند لي مهمة التعليق في المهرجانات التي كانت تقام في بني بكر عاصمة الحد-يافع، أثناء زيارات المسئولين أو في المناسبات العامة.
لكن أول احتفال كبير شهدته يافع وكان لي، أنا الطالب حينها في إعدادية الشهيد عبدالرحمن قحطان، شرف تقديمه، بتكليف من مسؤلي السلطة المحلية حينها ، ممثلة بمأمور يافع الأخ حسين ناجي محمد، حفظه الله، والمسئول التنظيمي حسين عوض عبدالقوي، رحمه الله، هو ذلك المهرجان الذي احتشدت فيه الجماهير في ساحة "سوق السلام"، بحضور أمين عام التنظيم السياسي الجبهة القومية حينها عبدالفتاح إسماعيل وعدد من قيادات الدولة، وقد كان نجاحي في تقديم ذلك المهرجان سبباً لاختياري لاحقاً لتكليفي في تقديم الاحتفال الجماهيري الكبير الذي حضره الرئيس سالمين في 20 يوليو من العام نفسه 1974م، بمناسبة افتتاح طريق نقيل الخلا، أحد أهم المشاريع التنموية آنذاك.
في تلك المرحلة، كنت وزملائي الطلاب من أبناء جيلنا، مشبعين بروح العمل الوطني ، وشغوفاً ومولعاً بالصحافة، وضمن مجموعة من الرفاق الطموحين من اتحاد الشباب والاتحاد الوطني لطلبة اليمن الذي كنت أرأسه في المديرية وأُمَثِّله في عضوية المكتب التنفيذي للمحافظة الثالثة ، أصدرنا نشرة شهرية أسميناها "الشباب والطلاب"، وكنّا نسميها "مجلة" تجاوزاً، تُطبع بالأستانسل وتُسحب بآلة الرونيو، ونوزع منها نحو مئتي نسخة على مراكز المديرية، وحتى ذلك التاريخ، أصدرنا منها أربعة أعداد.
المهم في الأمر أنني كُلّفت بإجراء لقاء مع الأمين العام عبدالفتاح، أو مع المسئول التنظيمي للمحافظة جاعم صالح، لنشره في العدد القادم من النشرة. وبقدر ما أسعدني هذا التكليف كثيراً، فقد شعرت بالرهبة والخوف من أن أخفق في هذه المهمة الكبيرة لطالب في المرحلة الإعدادية يقف أمام قيادات عليا في الدولة، وخشيت أيضاً أن أواجه بالاعتذار عن الإدلاء بحديث لمثل هذه النشرة المتواضعة التي لم يروها أو يسمعوا بها من قبل، لأنها لم تكن معروفة أو متداولة خارج المديرية. بيد أنني تزوّدت بالثقة، مدفوعاً بتحفيز الرفاق، وحملت عُدّتي، ولم أنس أن آخذ معي نسخاً من الأعداد الثلاثة التي صدرت من قبل.
بعد انتهاء المهرجان، عُقد لقاء موسع في قاعة المركز الثقافي بسوق السلام، ضم الأمين العام ومسؤولين ومواطنين، بحسب ما أتاحته سعة المكان. وهناك، اقتربت أولًا من جاعم صالح، المسؤول التنظيمي للمحافظة الثالثة (أبين حالياً)، وكان يعرفني لنشاطي الطلابي والتنظيمي، فطلبت منه إجراء مقابلة معه. فابتسم وأخذ بيدي، وقال: "لتكون المقابلة مع الأمين العام!"، فأخذ بيدي وذهب بي مباشرة إلى عبدالفتاح لإجراء اللقاء. وقدّمني إليه، فنهض بتواضع جمّ، وشدّ على يدي بحرارة، وأفسح لي مكانًا إلى يساره. كان يجلس على إسفنج بسيط، يمضغ القات بشكل لم يكن ملحوظاً، وعرضت عليه في البدء الأعداد التي بحوزتي، فراح يتصفحها باهتمام، بينما كنت أستجمع قواي لأبدأ اللقاء.
ثم طرحت السؤال الأول من الأسئلة التي كنت قد حفظتها عن ظهر قلب، فقلت له:
– إن مجلة "الشباب والطلاب" حديثة التكوين ولها تجربة قصيرة، وتود أن تتوجه إليك ببعض الأسئلة، فهل يمكن أن تتحدث للمجلة؟
ابتسم – وربما لطريقة طرح السؤال – وجاء رده الإيجابي قائلاً:
– بكل اعتزاز، الشباب والطلاب هم جيل المستقبل، ولنا ودٌّ أن نتحدث معهم باستمرار.
كانت الأسئلة التالية تقليدية ومتواضعة بحكم تجربتي المبتدئة حينها، وتتعلق بانطباعاته عن زيارته للمديرية، ثم عن الفارق الذي لمسه بين زيارته تلك وزيارته السابقة لها. وفي الأخير طلبت منه أن يوجّه كلمة للشباب والطلاب عبر المجلة.
ومنذ أن بدأتُ بطرح السؤال الأول، انتابتني مشاعر الارتباك والخوف من أن تفوتني بعض الكلمات التي قد لا أتمكن من كتابتها، إذ لم يكن بحوزتي جهاز تسجيل، وما عليَّ إلا أن أرهف السمع وأتابع كل ما يقوله أولاً بأول. وكأنه أدرك معاناتي، وقرأ السبب من ملامح وجهي المرتبك، فبدأ حديثه بهدوء ووضوح تام مكنني من الإمساك بناصية القلم، وبدّد مشاعر الارتباك، سواء عند طرح الأسئلة أو أثناء متابعة الإجابات على الورق.
وحينما شارف اللقاء على الانتهاء، لم أصدّق من الفرحة أنني أتابع معه الكلمة الأخيرة التي وجّهها للشباب والطلاب، وقال فيها:
"إن شبابنا وطلابنا هم البراعم الواعدة للثورة، إنهم أمل الثورة ومستقبلها، ولذلك فإن تنظيمنا السياسي – الجبهة القومية – وحكومة الثورة يعطيان اهتماماً كبيراً لتنشئة الجيل الجديد من الشباب والطلاب تنشئة ثورية مرتبطة بنضالات الثورة ومكاسبها، لأنهم سيتحملون غداً المسؤوليات المختلفة لمتابعة مسار الثورة وتحقيق كامل الأهداف في مجتمع ديمقراطي تقدمي. وإننا إذ نسجّل تقديرنا واعتزازنا لشبابنا وطلابنا على الجهود الكبيرة التي يبذلونها للدفاع عن الثورة والمساهمة في عملية الإنتاج، فإننا نطالبهم بمزيد من الوعي السياسي والثقافي، ومزيد من الارتباط بأوسع جماهير الشعب كدحاً وفقراً، لكي يستطيعوا أن يساهموا مساهمة فعّالة في الاضطلاع بالعملية الثورية في بلادنا."
انتهى اللقاء، فلملمت أوراقي وأنا أكاد أطير من الفرح، للخروج بنجاح من هذا الامتحان الأول والصعب الذي وجدت نفسي فيه أمام الأمين العام لتنظيم الجبهة القومية، في أولى خطواتي في عالم الصحافة، التي كانت بالنسبة لي حينها حلماً وأملاً.
وقبل أن أودّعه، شكرته على تجاوبه في الحديث لمجلتنا المتواضعة. واستقرت في وجداني، وفي أعماق قلبي، كلماته المشجعة، وأمنياته بالنجاح واستمرارية الجهود وتطويرها في المستقبل.
وغادرت القاعة وأنا أكاد أطير من الفرح. وازدادت مشاعر الفخر والاعتزاز حينما صدر العدد الجديد بعد خمسة أيام من ذلك اللقاء، يزدان غلافه بصورة الأمين العام التي رسمتها بريشتي، حيث كنت حينها أمارس هواية الرسم. وعلى الصفحة الثامنة نُشر نص اللقاء الأول والهام، في بداية رحلتي مع الحرف والكلمة التي لا أزال حتى اليوم طالباً في محرابها.
إن ذلك اللقاء، على بساطته، لم يغادر ذاكرتي منذ خمسين عاما ونيف، وبقي محفوراً في وجداني باعتباره أول خطوة لي في درب الإعلام والعمل الصحفي. لم تكن مجرد مقابلة، بل لحظة تحوّل شخصية، أعتز بها، ليس لأنها تخصني فقط، بل لأنها توثق لمرحلة مفصلية من مسيرة وطن ودولة كانت تبني أحلامها المشروعة، قبل أن تعصف بها الصراعات الداخلية، التي قادتنا إلى (وحدة ضيزى) متسرعة غدر بها الشركاء فأعادتنا القهقرى لعقود من الزمن.
د.علي صالح الخلاقي
26يوليو2025م




