وثيقة (نُقَادَة) بين أهل القعيطي سنة 1193هجرية

منبر عدن - يافع

بين أيدينا وثيقة بخط أحد أبرز فقهاء وقضاة يافع، نائب الشرع عبدالحبيب ابن أحمد حيدر عزالدين القاضي، المرجعية الدينية والاجتماعية ذات الثقل والتأثير الذي امتد خارج يافع، إلى حضرموت والبيضاء وأبين وغيرها، وترك لنا ذخيرة من الوثائق التي خطها بيده تعكس مكانته التاريخية المتميزة، خلال القرن الثالث عشر الهجري.
حصلنا على الوثيقة من الصديق الشيخ ناصر علي محمد الفقيه بن عزالدين (أبو نصر)، ضمن وثائق كثيرة من أرشيف أسلافه، التي أتاح لنا مشكوراً تصوير المئات منها ذات الصلة بتاريخ يافع وبحضرموت وغيرها خلال القرون الثلاثة الماضية، وبفضل تعاونه على اخراج هذه الوثائق من خزائنها تتدفق الأبحاث والدراسات المتتالية التي تستند إلى هذه الوثائق، لا سيما ما يخص تاريخ يافع وحضرموت.
وهذه الوثيقة ذات صلة بحُكم (النُّقَادة)، وهو أحد الأعراف التي كانت سائدة في يافع، حينما كانت تحكم ذاتها بغياب الدولة المركزية، وكانت الأسلاف والأعراف دستورها السائد، الذي يلتزم به الجميع، ويخضعون لبنوده ويحفظونها شفاهة بكل تفاصيلها  ويلجأون إليها في حل خلافاتهم ومشاكلهم.
والنُقَادَة، في العُرف القَبَلِيّ، أشبه بالمرافعة أو الاستئناف في الحُكْم في الوقت الحاضر من قبل الطرف المعترض الذي يرى أنه متضرر من الحُكْم الصادر. وللنقادة شروطها وأحكامها المتبعة.  وتتيح  قابلية الحُكْم للنقد أو الطعن فيه أو النقض من قبل آخرين من أهل الحل والعقد أو المراجع ذات الثقة ويكون هؤلاء عادة  ممن لا صلة قرابة لهم بأي من طرفي النزاع، ويُفضل أن يكونوا من قبيلة أخرى، ويُسمَّون "النُقَّاد"، ومفردها نُقِّيد/نَقَّاد"، ومهمتهم الاستماع إلى الطعن في الحُكْم الذي تقدم به الطرف المعارض على حُكْم "القلادة"، ويستلم النُقّاد ممن سبقهم كل الدعاوي والإجابات والأدلة والمستندات ويدرسون أبعاد القضية وأسبابها ومدى صحة الحُكْم الصادر أو ضعفه، وقد ينقضون الحُكْم السابق إن جانب الصواب في شيء، وقد يؤيدونه إن كان صحيحاً ويصبح نافذاً بلا مراجعة،  وان رفضه الطرف المرافع للحُكْم السابق يعتبرونه ذلك تعنتاً غير مقبول منه ومماطلة لا أساس لها، ويشهدون بأن موقفه باطل ولا له أي حق عند غريمه ويصبح مُداناً عند الجميع. ويكون حُكْمهم نافذاً وغير قابل للاعتراض عليه[انظر كتابنا"معجم الأسلاف والأعراف القبلية في بلاد يافع"].
وها هي الوثيقة التاريخية التي تعود إلى سنة 1193هجرية، تدلل على أهمية هذا العُرف القبلي ولجوء المتخاصمين للأخذ به بعد أن رأى أحد أطراف المشكلة أن الحُكم الذي اتخذه الوسطاء لا يرضيه، فأُعطي له حق المرافعة المكفول عُرفاً..
وفيما يلي نص الوثيقة:

الحمد لله وحده وصلعم
حضروا لدي وبين يدي المشايخ الكملاء عقال بني بكر وعقال القعيطي وعقال أهل الخلاقي وهم: أهل دينيش الشيخ دينيش والشيخ عوض والشيخ صقر  لشجر والشيخ عمر الحلسي والشيخ عوض عسيل ومن حضر من عقال بني بكر وخلاقة وقعيطي، فلما تم حضورهم تحصَّل الرضا بين المذكورين الواسطة بمشهدهم على الحَكَّام الشيخ عوض حسين جياش، والنقاد على حُكم الشيخ،  علي عبدالله ابن سعيد الداوودي وحصل الرضا على حاكم ثالث ينقد أحكامهم، والثالث مروس الواسطة من عرفوه إلى أي ديوان ، وحصل الرضا بين الواسطة إن من يخل وأقفى من قُدَّام الثالث فكان حُكمه باطل وصح حُكم من تجلس، حصل الرضا وصح ذلك وثبت وذلك الأحكام ما بين أهل القعيطي صح ذلك ومشايخ بني بكر الشيخ أحمد جابر الحطيبي والشيخ محسن محمد وعبدالحبيب ابن علي وحسين سعيد والشيخ دحروج والشيخ أحمد المحبوش خلاقي وداوود الحلسي وحسين علوي وأهل القعيطي سعيد وعيال عمه أهل القملي وعدة من المسلمين .
بتاريخ الاثنين وثلتعشر شهر رجب الأحب سنة 1193هـ
13 رجب1193هـ/ الموافق 27يوليو1779م
وفي الأعلى
كتبه الفقيه إلى رب العالمين عبدالحبيب ابن أحمد حيدر عزالدين القاضي
وحضر بذلك شهود أحمد بن عبدالله العمري
******
التعليق:
----
من الوثيقة نعرف أن أطراف المشكلة هم (أهل القعيطي)، لكننا لا نعرف من هم على وجه التحديد ولا تفاصيل وحيثيات هذه المشكلة، لأن مثل هذه الأمور شملها مخرج الحُكم الصادر عن الوسطاء في القضية، والذي اعترض عليه أحد الأطراف، وطلب المرافعة (النُّقادة)، ولا شك أن المشكلة ليست سهلة، بدليل تدخل نائب الشرع نفسه ومعه المشايخ (عقال بني بكر وعقال القعيطي وعقال أهل الخلاقي)، وقد ذكر أسماء أولئك المشايخ الذين حضروا، وبحضورهم  حصل التفاهم والرضا بينهم كوساطة، أو طرف ثالث، بين من أصدر الحُكم (الحَكَّام) وهو الشيخ عوض حسين جياش، ونقَّاد حُكمه الشيخ علي غبدالله سعيد الداوودي، الذي اعترض على الحُكم وفنَّد للوساطة أسباب اعتراضه التي وجدت قبولاً من قبلهم، وحصل الرضا على ما سيقرره (حاكم ثالث) في نقد أحكامهم، والطرف الثالث هنا هم  الوساطة، ممثلين بنائب الشرع عبدالحبيب بن أحمد حيدر ومعه المشايخ (عقال بني بكر وعقال القعيطي وعقال أهل الخلاقي)،الذين الزموا أطراف المشكلة بالحضور والقبول بحكمهم النهائي، وأقروا أن من وقف أمامهم كطرف ثالث للفصل النهائي بالقضية فجاز حكمه، وبَطُلَ حُكم من لم يحضر أو أدبر منهم (قفَّا). 
ويتضح أن الحكم الأولي الشبيه بالمحكمة الابتدائية قد قام به الحَكَم الشيخ عوض حسين جياش، فيما قام بدور محامي المرافعة (نقَّاد حُكمه) الشيخ علي غبدالله سعيد الداوودي، وكان الطرف الثالث وعلى رأسه نائب الشرع ومشايخ بني بكر وخلاقة والقعيطي محكمة الاستئناف التي أنهت القضية، وكان حكمهم ملزماً ونهائياً..
وفي أسفل الوثيقة تاريخ توثيقها، يوم الاثنين13 رجب1193هـ/ الموافق 27يوليو1779م.
أما في الأعلى فورد اسم نائب الشرع وكاتب الوثيقة، بما يعكس مكانته الرفيعة، وتواضعه حيث ورد(كتبه الفقير إلى رب العالمين عبدالحبيب ابن أحمد حيدر عزالدين القاضي)، وبجانبه الشاهد  أحمد بن عبدالله العمري.
ونعرف من الوثيقة أسماء المشايخ الحاضرين حينها وهم: الشيخ أحمد جابر الحطيبي والشيخ محسن محمد وعبدالحبيب ابن علي وحسين سعيد والشيخ دحروج والشيخ أحمد المحبوش خلاقي وداوود الحلسي وحسين علوي وأهل القعيطي سعيد وعيال عمه أهل القملي وعدة من المسلمين، ونتمنى أن نعرف أكثر ، من ذوي الصلة، عن هؤلاء المشايخ الذين لم ترد في الوثيقة سوى أسماء ثنائية فقط، أو الاسم الأول.
وهكذا كان العُرف القبلي يقوم بوظائف القضاء والمحاكم في عصرنا بالتقاضي بين الناس مع اتاحة الفرصة لنقض الاحكام في حالة عدم الاقتناع، واللجوء للمرافعة بعدة طُرق منها النقادة التي تحدثنا عنها، فضلاً عن السابلة والقَلَادة.

*د. علي صالح الخلاقي