الإعلام الجنوبي في القفص حتى بعد التحرير؟!
ما زلتُ أتذكرُ جيداً أول زيارة لي إلى السجن المركزي في صنعاء عام 2007م،ضمن ذكريات عالقة بالمخيلة لمسيرة كفاحنا الجنوبي الشاق والمرير للانتصار لقضية الجنوب في ظروف صعبة و عنيفة طالت الجميع بمن فيهم الكثير من رفاق الدرب الذين باتوا اليوم يشغلون مناصب ومواقع قيادية رفيعة، قد اخذوا نصيبهم من السجن والأحكام الجائرة والمطاردة والنفي...ومع ذلك لم تكن تلك المرحلة بقسوتها تخلو من الشعور بالزهو وراحة البال والضمير، فقضيتنا وولائنا للجنوب كانت و ما زالت راسخة في الوجدان حتى يقضي الله امرا كان مفعولا وما تزال معها عجلة النضال وعربة الكفاح مستمرة بالسير حتى بلوغ الغاية ... برغم الإجحاف والتهميش والتجاهل الذي يتم والسلبيات التي تحدث.
من جملة ما اتذكره -على سبيل استعادة ذاكرة الأمس ليس إلا - أن الصحفي والناشط الجنوبي المعروف امين محمد الشعيبي ارسل لي حوالة مقدارها لا يتجاوز الــــ 1000 ريال سعودي واوصاني ان اسلمها شخصياً للمناضل يحيى غالب والدكتور حسين العاقل والمناضل حقيس، كانت بالنسبة لي أول مهمة نضالية سرية وداخل العاصمة اليمنية حينها صنعاء أي بين قوسين عاصمة الاحتلال إلا انها كانت مهمة متاحة التنفيذ
بحكم أن وقتها كان مدير السجن المركزي بصنعاء اللواء مطهر علي ناجي،وكنت حينها كجنوبي حديث السن والتجربة أحظى بمعاملة استثنائية لا باس بها، خصوصاً وان عددا من حراس البوابات كانوا على معرفة جيدة بوالدي وعمي حسين الجوبعي، المعروف للجميع، لهذا تمكنت على عجلة من الدخول لزيارتهم من خلف القضبان والسلام عليهم وتسليمهم تلك النقود القليلة بحقهم الكبيرة وقتها بالنسبة لمعتقلين سياسيين في تلك الحقبة، وفي عز سلطة دولة علي عبدالله صالح.
كان حينها شعوري يختلجه الخوف بالفرح بعد انجازي مهمتي الوطنية الأخلاقية، التي لا اعتقد ان احد من المناضلين الذين ذكرت أسمائهم أعلاه يتذكرون زيارتي لهم الآن،ربما لضعف الذاكرة او لمواقعهم الجديدة في قيادة المجلس الإنتقالي الجنوبي حالياً،او هكذا نعتقده ونتمنى ألا يكون.
لم تكن هذه المهمة الوطنية التي خضتها الوحيدة فقد كنت وقتها وبعدها مشغولاً ايضاً بمتابعة قضية اعتقال الزعيم حسن باعوم ولم افوت أيضاً حضور جلسات محاكمة الرفيق المناضل فادي باعوم في كثير من المحاكم الجزائية بصنعاء، كما لم افوت ايضاً زيارة المعتقل احمد المرقشي- عميد الاسرى الجنوبيين- واللقاء به وعمل حوار صحفي معه داخل السجن المركزي ، وقتها كنت قد تعودت على زيارة السجن لتفقد أوضاع المعتقليين السياسين والصحفيين بينهم استاذي ومعلمي صلاح السقلدي.
سنوات صعبة مرت علينا جميعاً بين الثورة والحراك والإعتقال والتهديد بالقتل والمضايقات التي عانينها في تلك الحقبة من الزمن، مع فارقاً بسيط هو شعوري انني بين كل اقراني الأوفر حظاً، ومن القلائل الذين لم يطالهم السجن سوا لساعات وأيام حينها ، وذلك لحداثة تجربتي، وفترة تعليمي التي قضيتها في جامعة صنعاء ، وأيضا للكثير من التطورات السياسية والإنفتاح حينها، وقضايا الحريات والتعبير السياسي والمساحة التي تركت مفتوحة حتى وأن كانت على الهامش، لكننا عشنا كل تفاصيلها .
كل ما ورد أعلاه ليس صلب الموضوع الذي اريد الحديث عنه الآن، مرت سنوات طوال وها نحن اليوم نعيش واقع ما بعد الحرب، ما بعد التضحيات الطوال التي دفعنا ثمنها باهظاً من أرواح شبابنا الأبطال وسنوات عذاب شعبنا ، اليوم نحن من يحكم الجنوب حتى وان لم يكن الجنوب كله، حتى وان كان ايضاً من يشاركنا الحكم اليوم لم يكن على الأطلاق مناضلاً او معتقلاً او ثائراً خلال سنوات الحراك العشرين، واشهر الحرب الأخيرة في مارس 2015م وما بعدها ، غير انهم اليوم اصبحوا في أعلى هرم السلطة بقدرة قادر.
لهذا اتحدث اليوم كصحفي عاش حقبة الظلم والاعتقال وكتب عنها وندد بها وذاق الأمرين بسببها مثلما ذاق مثلي زملائي ورفاقي في الحراك والحرب.
كنت احلم ان دولتنا ونضالنا الذي تعبنا وسهرنا وعانينا لأجلها سنوات وأشهر وأيام سيتمخض عنه دولة قانون، لا يظلم فيها أحدا، غير ان ما يحصل اليوم عكس كل توقعاتنا وتوقعي انا شخصياً.
ما يحدث اليوم عيبً بحق أحلامنا عيبً بحق تضحيات الألآف من الشهداء والالآف من الجرحى، عيب بحق مدنيتنا وعيبً بحق الشعارات التي كنا نرفعها وقتها، ونمني النفس حينها أن تلك الشعارات والقوانيين سنحققها بفضل نضالنا في دولتنا الجنوبية القادمة.
ها نحن نعيش اليوم في ضل الأمن والاستقرار بعد تضحيات جسام، غير ان الحرية وحرية الرأي والرأي الاخر ما تزال مصادره بفعل فاعل، بالأمس فقط وبجهد مشترك من الهيئة الوطنيه للإعلام الجنوبي ونقابة الصحفيين الجنوبيين افرج عن زميلي محمد عبدالوهاب اليزيدي الذي اعتقل بسبب بلاغ من نائب المجلس الرئاسي ونائب رئيس المجلس الانتقالي اللواء فرج البحسني، على خلفية منشورات صحفية كتبها تضامنا مع زميل له اعتقل في حضرموت قبل ثلاث او اربع سنوات، مع احترامي وتقديري للبحسني وعلاقتي به، إلا ان ثمة ما يستدعى التساؤل، ماذا يعني كل هذا ؟؟ ولمصلحة من يتم مضايقة الصحفيين واعتقالهم بين الحين والاخر ؟!
على الرغم من نضوج خطاب المجلس الانتقالي ومساحة الحرية المتاحة في العاصمة عدن، ودور رئيس الهيئة ونائبه مختار اليافعي، اللذين خلقا بيئة صحية للعمل الإعلامي في الجنوب، غير ان تصرفات بعض القيادات الشرعية سابقاً والمحسوبة على الانتقالي اليوم، تسبب الكثير من الحرج للهيئة الوطنية للإعلام ولنقابة الصحفيين الجنوبيين، وللمجلس الانتقالي الجنوبي بكله، غير ان هذه التصرفات لن تتكرر مستقبلاً،انا اثق بذلك مثلما اثق بقيادة الرفيق سالم ثابت والصديق مختار اليافعي، واستاذنا الكبير عيدروس باحشون.
من القهر الآن ان ينتابك احساس ولو مؤقت ان سلطة الاحتلال قبل سنوات كانت احن على الصحافة والإعلام واحن على زملائي من هذا الوضع ؟! من هذا الوضع الذي نعيشه في ظل حكمنا وسيطرة قواتنا على الجنوب .
مايؤكد هذا الشعور القاسي اننا كصحفيين نتشارك ذات الاحساس، ونحن نشعر مع الايام ان مساحة حرية الرأي والتعبير تختنق في عاصمة الحرية والسلام .
كل شيء تغير إلا مطهر علي ناجي في الماضي كان الأكثر تعاون معنا في ظل مهامه كمدير للسجن المركزي بصنعاء، واليوم ايضاً هو اكثر تعاون مع الصحفيين وكل المواطنيين بحكم منصبة كمدير لشرطة عدن.
هو أصبح مديرا للأمن ومن كانوا من رفاقه بالسجن اصبحوا قادة في الانتقالي وآخرين كانوا في المنفى عادوا كحكام ونواب في الرئاسة، ومع هذا تحدث امور يتعامل معها مدير الامن كمنفذ لتوجيهات النيابة وهذا لا يعيبه، غير ان المعيب ان رفاق الكفاح الطويل، يمارسون ذات الاساليب التي عانوا منها لسنوات، لهذا اعتقد ان السلطة التي تعيشها تخلق منك شخصا اخر وتجعلك تمارس اشياء كنت بالأمس تندد بها .
ولكن ماذا نعمل ..انه مرض السلطة ؟! لهذا وبكل صراحة اقولها انني للتو تفهمت تصرفات سلطة علي عبدالله صالح وقتها ضدنا ،بحكم اننا كنا ضدها كليا، كما اتفهم اليوم شعور السلطة التي يشعر بها اصدقاء ورفاق الأمس.
للحديث بقية
17/ اكتوبر 2024