عن لهجة أهل عدن
لدينا إشارة قديمة إلى لهجة أهل عدن ذكرها الهمداني (ت بعد 355هـ) في كتابه: "صفة جزيرة العرب"، إذ قال: "عدن لغتهم مولّدة رَدِيّة"، ومعنى قوله: (لغتهم) أي: لهجتهم، و(مولّدة) أي: أنها هجينة من لغات ولهجات مختلفة، و(رَدِيَّة) أي: رديئة في نُطقها، وبعيدة عن الفصاحة.
وهذا الحكم الذي أطلقه في عصره عن لهجة عدن ليس بعيدًا عن اللهجة التي نعرفها اليوم، والعلة في ذلك أن عدن بحكم موقعها الجغرافي ومكانتها التجارية هي محطة عبور للغات ولهجات كثيرة، وكل هذه اللغات واللهجات تركت أثرًا في لهجة أهل عدن، فضلًا عن استيطان عناصر غير عربية لعدن منذ القِدم إلى الآن، ولا شك أن هؤلاء يتأثرون بلهجة أهل عدن ويؤثرون فيها، ولا يخفى القدر الكبير من الكلمات غير العربية في لهجة أهل عدن.
وبعيدًا عن هذا وذاك، فقد كان أترابنا الساكنون في عدن في زمن الطفولة، يعودون إلى القرى في الصيف، وكانوا يحذقون لهجة عدن بمجرد أن يحطوا رحالهم بين أظهر القوم، ويتحدثون بها معنا، ونحن نضحك منهم ونتعجب من طريقتهم في اللبس والمشي التي تنمّ عن جانب من المدنية نعافها نحن أهل الريف المعتادين على قسوة الحياة ومغالبة العيش، وكانت لهجتنا نابعة من وعورة الطبيعة وصلابة الحياة التي نحياها في شُعُف الجبال وبطون الأودية، ومع ذلك، كنا نتمنى أن نصير مثلهم يومًا ما!
وفي السنوات الأخيرة، توسعت الأحياء السكنية في محافظة عدن، وانتقل إليها أغلب سكان الأرياف القريبة منها، وصار الناطقون باللهجة العدنية (أقلية) بين الغالبية العظمى من القاطنين الجدد الناطقين بلهجات يافع ودثينة والعوالق وتعز وتهامة وغيرها، ولستُ مبالغًا لو قلتُ إنه يندر في الحي الذي أسكن فيه أن أسمع متكلمًا بلهجة عدن التي كنا نعرفها قبل أكثر من ثلاثين عامًا، مع أن السكان خليط من مناطق شتى.
وهناك جهود طيبة قام بها بعض الباحثين في تدوين لهجة عدن، ولكن يبقى الجهد منقوصًا ما لم تدوَّن في مدونات صوتية، لأن اللغة أو اللهجة ليست مجرد كلماتٍ ومعانٍ، بل هي أصوات، وبنىً صرفية، وجُمل مركبة.
