وجعٌ جنوبيّ لا يحتمل الصمت
أنا ابنة هذا الجنوب.
ابنة الأرض التي نبتت من رماد الحروب، وشهدت على تقلبات الزمن والقلوب.
ولدتُ على أصوات الرصاص، وترعرعتُ على وعد وطنٍ يعود… ولم يعد.
كبرتُ وأنا أسمع الكبار يرددون: "الغد أفضل". لكن كلما أتى الغد، خيّب الأمس.
منذ أعوام طويلة ونحن نعيش بين فكيّ الضياع والتيه.
جنوبٌ ممزق، يحكمه من لا يشعر بنا، ويتحدث باسمه من لا ينتمي إليه.
جنوبٌ يُنهش من الداخل، تُستنزف روحه، وتُقمع كرامته كل صباح.
والمؤلم؟ أننا اعتدنا.
اعتدنا أن تغيب الكهرباء لساعات وربما أيام، أن الماء شحيح، والدواء مفقود، والوظائف وهم، والحياة صراع يومي.
هل سأل أحدكم نفسه كيف يعيش الناس هنا؟
كيف تصمد الأمهات أمام الجوع ووجع أولادهن؟
كيف لا ينهار الآباء الذين لا يملكون ثمن كيس طحين؟
كيف لا ينتحر الشباب الذين أنهكهم الانتظار في وطنٍ بلا مرافئ أمان؟
نحن لا نعيش… نحن ننجو.
في الجنوب، لا أحد يعيش كما يجب.
نُربّي أبناءنا على الصبر بدل الطموح، وعلى التحايل على الحياة بدل السعي فيها.
نعلّمهم أن "الوطن" مجرد كلمة في خطاب، أما في الواقع فهو جواز مشلول، وحدود مغلقة، وأمن بلا أمان.
تعبنا، والله تعبنا.
تعبنا من الشعارات، من الانقسامات، من خيبات الوعود، من صراع الكراسي، من وجوه السياسيين التي لا تستحي، من الرصاص الذي صار لغة الحوار الوحيدة، ومن أحلامنا المؤجلة التي تبخّرت في طوابير البنزين وأمام أبواب المستشفيات.
وكلما سألنا: إلى متى؟
قالوا: اصبروا.
لكننا صبرنا حتى ذاب الصبر في دمنا، وبقي الوجع ينخرنا بصمت.
أخبروني بالله عليكم:
أهذا هو الجنوب الذي ناضل من أجله الأبطال؟
أهذه هي عدن التي كانت زهرة المدن، واليوم تُدفن تحت رماد الإهمال والخذلان؟
أهذا هو الوطن الذي نحلم أن نعود إليه بعد الغربة؟
أي وطن هذا الذي نخاف فيه على حياتنا… ونخاف منه أيضًا؟
أين الدولة؟
أين الضمير؟
أين من يتحدثون باسم الشعب ولا يمرّون من حاراته؟
أين من يزعمون الحرية وهم يسجنون الأمل؟
أينهم من الأمهات المكلومات، من الشهداء الذين رحلوا، من المعاقين الذين تُركوا، من الجرحى الذين لا دواء لهم ولا حتى صوت يطالب بهم؟
أقولها بمرارة:
لن تعود المياه لمجاريها ما دمنا نمجّد الأسماء لا المبادئ، ونصفّق للخُطب لا للأفعال، ونركض خلف الوهم ونترك الحقيقة تنزف أمامنا.
لن تعود… ما دمنا نحارب بعضنا، ونتعامل مع الجنوب كغنيمة لا كقضية، ونستبدل الكرامة بالخبز.
لكنها ستعود… إن قررنا أن ننهض.
ستعود إن وقفنا صفًا واحدًا لا تمزقنا الولاءات.
ستعود إن زرعنا في قلوب أبنائنا حب الوطن لا الخوف منه.
ستعود إن صرخنا في وجه الظلم، لا في وجوه بعضنا.
ستعود… إن آمنا أن الجنوب ليس مجرد جغرافيا، بل كرامة، وحق، وحلم يستحق أن نعيش له… ونموت من أجله.
أنا لا أكتب لأثير الشفقة، ولا لأجل خطبة عابرة.
أنا أكتب لأنّي موجوعة.
لأني أرفض أن أُطبّع مع هذا الانحدار وكأنه قدر.
أنا أكتب، لأن في قلبي وطن، وفي صوتي حق، وفي عيني دموع جنوبٍ يستحق أن يُنقذ.
فيا جنوب… متى تعود المياه إلى مجاريها؟