يافع.. "حين يتجاوز الملعب حدود الكرة: تأملات من نهائي شهداء كلد يافع
كتب: الأستاذ عبدالعزيز الحمزة، وكيل محافظة أبين
اليوم وفي جلسة لطيفة مع بعض الأصدقاء من أبناء يافع، دار نقاش محتدم حول المباراة النهائية لدوري شهداء يافع كلد، تلك التي جمعت بين اتحاد حُمة وشباب رصد، والتي جرت يوم الخميس ٤ سبتمبر الجاري، والتي انتهت بتتويج اتحاد حمة بطلا .
كان حديثهم كلّه منصبًا على السلبيات التي رافقت المباراة، من مخالفات ومشكلات، وتبادلوا الرأي بحماس بالغ، ثم التفتوا إليّ طالبين مشاركتي، باعتباري حضرت النهائي كأحد ضيوف الشرف. ابتسمت وقلت لهم: دعوني أحكي لكم تأملاتي في رحلتي إلى هذه المباراة، فما رأيته بعيني يختلف كثيرًا عما دار في نقاشكم.
لم تكن رحلتي إلى يافع لحضور نهائي بطولة شهداء يافع كلد مجرد حضور رياضي عابر، بل كانت نافذة تطل بي على روح شعب ومعدن أمة جبلية شامخة. منذ أن بدأنا الصعود في طرقها الوعرة وأنا أتأمل تلك الجغرافيا المنيعة التي اختارها أهل يافع موطناً لهم. جبال تتطاول نحو السماء، وصخور صلبة تصافح الغيوم، كأنها تحاكي قلوب رجالها صلابةً وكرامةً وشموخاً. أدركت حينها أن هذه الطبيعة الصعبة لم تُشكّل مشقةً فقط، بل صاغت في وجدان اليافعي روح الجلد، وسمو النفس، واعتزاز المرء بعزيمته وكرامته.
وصلنا إلى سرار، وكان الاستقبال حافلاً يفيض كرمًا وحفاوةً. لم يكن غريباً أن ترى رجلاً من هذه الجغرافيا القاسية يتحلى بروح الكرم الفياض؛ فكما أن الأرض عالية شامخة، كذلك هم أهلها في جودهم وطيب معشرهم. رافقني في الرحلة الصديق الكابتن أحمد صالح الراعي، مدير مكتب الشباب والرياضة في أبين، وتشاركنا الدهشة والإعجاب بما رأينا من كرم وصدق محبة.
وعلى الرغم من وعورة الطريق المؤدية إلى ملعب الصفاءة، وهطول المطر الغزير، فوجئت بمشهد قلّ أن تراه في مكان آخر: مئات السيارات، وجموع من البشر من كل القرى والوديان، أطفال وشباب وشيوخ، بل وحتى نساء، يتوافدون زرافات ووحداناً، لا تمنعهم الأمطار ولا صعوبة الطريق. مشيت بينهم، أراقب وجوهاً يضيئها الحماس، وقلوباً تهتف للرياضة والشهداء، وأدركت أنني أمام مشهد استثنائي يتجاوز حدود المستطيل الكروي.
حين دخلت إلى الملعب، أحسست أن الأرض تضيق بهذا الجمع الغفير. الآلاف افترشوا الأرض، وصعدوا على سفوح الجبال المحيطة، حتى بدت المدرجات الطبيعية أكبر من الملعب نفسه. الأهازيج والطبول والأعلام لم تكن مجرد تشجيع، بل كانت سيمفونية شعبية هزّت المكان والزمان. وما أدهشني أن عدد الشيوخ والكهول في الحضور كان يفوق الشباب، وكأنهم جاؤوا ليغرسوا في الأجيال درساً في الانتماء والوحدة.
كان المطر يتساقط بغزارة، لكن لم يفتّ ذلك في عزيمة الجمهور. لحظات قليلة تفرّقوا فيها تحت وابل المطر، ثم سرعان ما عادوا أكثر إصراراً وحماسة. المباراة بدأت وانتهت، ولكن روح الجماهير بقيت حاضرة كأنها هي البطولة الحقيقية. لقد كان المشهد أشبه بحجّ شعبي إلى ذكرى الشهداء، اجتمع فيه أهل يافع بكل فئاتهم، متجاوزين كل نقص في الخدمات، وكل وعورة في الجغرافيا، وكل مشقة في الطريق.
نعم، المباراة شابتها بعض الإشكالات والمخالفات، وهو أمر طبيعي في بطولات وليدة لا تزال في طور التراكم والتجربة. لكن حين كنت أستمع لأصدقائي وهم يتحدثون بحماس عن سلبيات النهائي، قلت لهم: دعونا من تفاصيل الملعب، وانظروا إلى عظمة الجمهور، إلى هذا التلاحم الذي يصعب وصفه. هنا يكمن جوهر البطولة: في الوحدة التي جمعت القرى والجبال، في الكرم الذي تجلى في الجوائز والعطاءات التي قدمت للاعبين والمبدعين واللجنة المنظمة ، وفي الروح التي لا تنكسر أمام الجغرافيا القاسية ولا أمام شحّ الخدمات.
ولأن أي ملحمة جماهيرية تحتاج إلى عينٍ توثقها، فقد كان الإعلام حاضراً بحيوية لافتة، سواء عبر منصة "حمير الإعلامية" أو على أثير "إذاعة عدانية إف إم"، حيث أبدع الإعلامي المتميز نجيب محفوظ الكلدي – صديقي العزيز – في قيادة التغطية الإعلامية كقائد أوركسترا يوزع الأدوار ويمنح الصورة بعدها الملحمي. كان الإعلام بحق جزءً أصيلاً من نجاح هذا العرس الكروي.
ولا يفوتني أن أسجل شكري وامتناني العميق لصديقي عادل سبعة، أمين عام المجلس المحلي في مديرية رصد، واللجنة المنظمة لهذا الكرنفال الرياضي الكبير، والذين تكرموا بدعوتي لأتشرف بحضور هذا الكرنفال البديع.
وكذلك شكري لأخي العزيز ورفيق الدرب الأستاذ علي خضر مجمل الذي رافقنا في الرحلة وأمتعنا بالتعرف على معالم مديريات يافع – سرار ورصد –، وللشيخ العزيز ضمان القوح الذي استضافنا في بيته وجسّد أمام أعيننا روح الكرم اليافعي في أجمل صورها.
لقد أدركت وأنا بين أهل يافع أن هؤلاء القوم إذا أرادوا شيئاً أنجزوه. إنهم يحاكون جبالهم شموخاً وعزيمة، ويجسدون معنى الكرامة بالصبر والتحدي. وأدركت أيضاً أن الرياضة في مثل هذه المناطق ليست مجرد تسلية، بل هي ميدان لتعزيز اللحمة المجتمعية، وتجديد العهد مع الشهداء، وإبراز صورة مشرقة عن شعب يعيش بأقل الخدمات لكنه يفيض حياةً وكرماً وعنفواناً.
لقد كانت بطولة شهداء يافع كلد أكثر من مجرد منافسة كروية، كانت لوحة فنية رسمها الجمهور بأجسادهم وقلوبهم وأهازيجهم، وجعلوا من الملعب مهرجاناً شعبياً يليق بعظمة يافع. هناك فقط، تمنيت لو أنني يافعيّ، أنتمي إلى هذه الأرض التي تلد الكرامة كما تلد الجبال الشموخ.
واعتذر من القارئ الكريم تأخري عن الكتابة عن الفعالية لأكثر من أسبوعين فجاءت مناقشة اليوم لتحفز على الكتابة .
🌹وطابت جمعتكم 🌹
✍️ عبدالعزيز الحمزة
وكيل محافظة أبين
الجمعة ١٩ سبتمبر ٢٠٢٥م

