خاطرة في طريق التغيير
كل شيء إذا أكثرت منه وصلت لمرحلة الامتلاء والشبع، سواء كان أكلا ، شربا ، نوما ، لعبا ، إلا العلم والمعرفة، كلما تعمق الإنسان فيه ودخل في تفاصيله الدقيقة والمتشعبة، رأى بأن مستواه العلمي يكاد يتصاغر وأيقن بأنه لم يعرف شيئا بعد !
ولهذا فإن التواضع الحقيقي للعلماء يعد مقياسا لما عندهم من العلم والمعرفة، فمن تواضع منهم فقد وصل لمرحلة العمق، ومن تنمر على الناس بعلمه، وأبرز لهم عضلات المعرفة، فاعلم بأنه لم يزل في الساحل.
كم نحن ( فشافيش ) والله! مع أننا لا علاقة لنا بالعلم أصلا، نغتر بالألقاب العلمية ونتنافس لنيلها لكوننا نعلم بأنها تشرفنا، ولم نفكر ولو لمرة بأن الأصل أن تتشرف هذه الألقاب بحامليها لا العكس .
امتلأت رفوف مكتباتنا الجامعية بنسخ الرسائل المقدمة من الأكاديمين ( الباحثين ) في وقت لا يحسب لهذه البحوث أي حساب؛ لأنها لم تعالج أي إشكاليات حقيقية، أو تقدم أي حلول واقترحات يستفيد منها الناس استفادة فاعلة بشكل أو بآخر.
لقد أصبحت المؤسسة العلمية في الدول المتخلفة عبئا على ميزانية الدول؛ لأنها لم تكن سوى مؤسسة استهلاكية، بخلاف الدول المتقدمة التي حولتها إلى مؤسسة إنتاجية، وما تصرفه عليها ( مع ضخامته ) لا يساوي شيئا بما تنتجه مخرجاتها العلمية على كافة المستويات.
دولنا يحكمها مجموعة من المستبدين الذين يرون بأن مناصبهم مرهونة بحالتنا المتخلفة، وهذا الأمر يؤكد بأنهم يعملون لتطبيع التخلف لا للانعتاق منه، كما فعلها الإمبراطور الياباني ( ميجي 1912م) الذي قاد عملية التغيير في بلده فنقلها لمصاف الدول العظمى حينها ، ولا ننتظر من ( النخب ) أن تغير من هذه المؤسسات؛ لأنها ليس باستطاعتها أن تفعل! فكثير ممن يرأسون المؤسسة التعليمية لا يقلون استبدادا من رؤساء هذه الدول، أضف إلى هذا بأنهم من مخرجات تلك المؤسسات الهشة ذاتها، ومن الطبيعي أن لا يكونوا قادرين وهم قد جمعوا بين الاستبداد والعجز !
إننا شعوب نحب المديح، ولو كنا نعلم في قرارة أنفسنا بأننا لا نستحقه! ولذلك تجدنا نكتب أو نحاور أو نؤلف أو نعمل أي شيء لا من أجل أننا نرى أهمية ما نتناوله في تلك الأعمال؛ بل لأجل أن نبرز بها أنفسنا فحسب .
ومن لم يكن منا محسوبا على العلماء أو الباحثين أو القراء أو المثقفين أو الكتاب ممن تؤهلهم ألقابهم ( العلمية ) لادعاء ذلك، يحاول يبرز نفسه بأي وسيلة تخالف السائد من باب خالف تعرف، ولو كان ذلك البروز يكلفه سمعته وأخلاقه، بل ودينه وعقيدته ولا يبالي أن يضيع دنياه وآخرته أهم شيء أن يكون رقما في المجتمع لا أكثر!!
إن واقعنا لن يتغير ما لم تكن هناك محاسبة حقيقية لذواتنا، ومراجعة لدوافعنا الخفية لكل عمل نقوم به، وإذا احترم كل واحد منا نفسه وعرف قدرها الحقيقي ، سيوجد بيننا من المخلصين العاملين من يصحح مسار المؤسسات التي يقع عليها عملية التغيير ومنها المؤسسة التعليمية، فالبناء يبدأ من القاع ( الساس ) ولولا متانة الذرة ما تكونت المجرة .
